جامعة الاصول

اشارة

عنوان
جامعه الاصول
پدیدآورنده
نویسنده: ملا محمد مهدی نراقی
موضوع
اصول فقه شیعه - قرن ق۱۲
سرشناسه فارسی نراقی، مهدی بن ابی ذر = ۱۱۲۸ - ق۱۲۰۹
محل انتشارقم = كنگره بزرگداشت ملا مهدی نراقی و ملا احمد نراقی = ۱۳۸۰
صفحه۲۸۸ ص
توضیحاتعربی
كتابنامه : ص . ۲۸۶ - ؛۲۸۸ همچنین به صورت زیرنویس
رده بندی كنگره
BP۱۵۸/۸۸/ ن۴ج۲۱۳۸۰
زبان: عربی
تعداد جلد: 1

[الخطبة]

الحمد للَّه الّذی وفّقنا لاستنباط الاحكام الشرعیّة الفرعیّة بالقاء الأصول، وأیّدنا لاستخراج المسائل الفقهیّة بوسیلة أئمّتنا الرّاشدین الّذین هم امناؤه وأوصیاء الرّسول (صلّی اللَّه علیه و آله)، وأرسل رسوله المصطفی لتأصیل الأصول وتأسیس المبانی علی فترة من الرّسل بعد ما اشرفت شموس الشرائع علی الأفول.
الّذی أظهر بلطفه الموجودات من أصل العدم إلی عزّ الوجود، وبمنّه أبرز الممكنات من مكمن الخفاء مع براءتهم الأصلیّة عن شائبة الوجود إلی نور الشهود وبسط لهم بكرمه بساط الرّحمة والرّأفة والفیض والجود، والّذی رحّج وجود المهیّات الامكانیّة علی عدمها بعد ما كان الأصل فیهم العدم، وجعل وجوداتها حادثة بعد ما كان أعدامها متّصفة بالقدم.
جامعة الأصول، ص: 10
والصّلاة علی من أرسله مستصحباً للبراهین والمعجزات ومؤیّداً بالكرامات والآیات البیّنات، وعلی آله الطیّبین وأولاده الطّاهرین الّذین شیّدوا قواعد الملّة والدّین واسّسوا أساس الشّرع المبین صلوات اللَّه علیهم أجمعین مادامت السماوات فوق الارضین.

[المدخل]

اشارة

أمّا بعد فیقول المحتاج إلی غفران ربّه السّرمدی محمّد بن أبی‌ذرّ النّراقی المعروف بمهدی بصّره اللَّه بعیوبه ونجّاه من أحزانه وكروبه:
إنّی كنت منذ دهرٍ طویل وزمان كثیر عازماً علی إملاء رسالة جامعة لجمیع الادلّة المشتركة فی إطلاق اسم الأصل علیها الّتی هی معتبرة عند أصحابنا الامامیّة ومتداولة بین فقهائنا الاثنی عشریّة- شكر اللَّه مساعیهم الجمیلة- مع ما یتعلّق بها من الاستدلال والاتیان بما ثبت عندی من تحقیق الحال وتدقیق المقال، لانّها هی عمدة ما یستنبط منه الاحكام الشّرعیّة ویستخرج منه المسائل الفرعیّة، وقد كان یمنعنی عن ذلك عوائق الزّمان وبوائق الدوران ولكن لم یزل هذا الخیال مختلجاً ببالی وكان ذلك دائماً من جملة آمالی حتّی وفّقنی اللَّه تعالی بلطفه العمیم، وأیّدنی بكرمه الجسیم للاقتحام فی هذا الامر العظیم فحمدته علی منّه وتأییده وشكرته علی توفیقه وتسدیده، فشرعت فیه بعد الإستغاثة إلی ربّی من خطاء القلم فی مواضعه وزلّ القدم فی مواقعه إنّه خیر الراحمین وأكرم الحافظین.
ولمّا كان هذه الرسالة جامعة لجمیع الأصول المتعارفة المتداولة مشتملة علیها فرأیت أنّ أسمّیها بجامعة الأصول، ولنقدّم مقدّمة فی ذكر
جامعة الأصول، ص: 11
الأصول المتداولة، وتمییز بعضها عن بعض.
اعلم أیّدك اللَّه بتأییده وجعلك من خلّص عبیده أنّ للأصول الدّائرة علی ألسنة الفقهاء عامّاً وخاصّاً، وتحت الخّاص أخصّ منه أیضاً وهكذا إلی أن یتنهی إلی الأفراد الّتی لیس تحتها أخصّ منها ولسنا ندّعی أنّ الأعمّ الأشمل جنس عال أو عرض عامّ فإنّ هذا لیس وظیفتنا وكذا فی البواقی فإنّا لا ندّعی أنّ الأمور الّتی ینقسم إلیها الأعمّ الأشمل بالقسمة الأولی أجناس متوسّطة والامور الّتی ینقسم إلیها كلّ واحد من هذه الأجناس بالقسمة الأولی أنواع وهكذا أو لیس كذلك، بل كلّ عامّ عرض عامّ بالنّسبة إلی ما تحته، فإنّ ذلك لا یلیق بما نحن بصدده.
وإذا عرفت ذلك فاعلم أنّ لفظ الأصل، هو الأعمّ الأشمل الّذی لیس فوقه شی‌ء. ثمّ انّ هذا الأعمّ الأشمل یطلق علی أربعة معان بناءً علی ما ذكره الشهید الثانی (قدّس سرّه) فی «تمهید القواعد» حیث قال: الأصل یطلق علی معان:
الاوّل الدلیل ومنه قولهم: الأصل فی هذه المسألة الكتاب والسنّة.
الثانی الرّاجح ومنه قولهم: الأصل فی الكلام الحقیقة.
الثالث الإستصحاب ومنه قولهم: إذا تعارض الأصل والظّاهر فالأصل مقدّم إلّا فی مواضع كما ذكره الشهید (قدّس سرّه).
الرابع القاعدة ومنه قولهم: لنا أصل «1».
______________________________
(1) تمهید القواعد ص 32 و 301
جامعة الأصول، ص: 12
والمراد بالرّاجح ما یترجّح إذا خلیّ الشّی‌ء ونفسه مثلًا إذا خلّی الكلام ونفسه یحمله المخاطب علی المعنی الحقیقی لانّه راجح.
أقول: إن كان غرضه من هذا الأطلاق أنّه إطلاق أوّلیّ بمعنی أنّ كلّ واحد من هذه الأربعة داخل تحت الأصل، ولیس واحد منها داخلًا تحت الآخر ولا لفظ الأصل أیضاً داخلًا تحت واحد منها، ومع ذلك كلّ من الأصل والدّلیل مأخود بالمعنی اللّغوی أو الإصطلاحی المشهور بین القوم فیرد علیه أمّا اولًا أنّ الدّلیل لغة واصطلاحاً أعمّ من وجه من الأصل اللّغوی. أمّا لغة فظاهر وأمّا اصطلاحاً فلأنّه عند الأصولیّین عبارة عمّا یلزم من العلم به العلم بشی‌ء آخر، وأمّا عند المنطقیّین فلإنّه عبارة عن قولین فصاعداً یلزم من العلم به العلم بشی‌ء آخر وعلی كلا الاصطلاحین لیس الدّلیل أخصّ مطلقاً من الأصل.
وأمّا الأصل الّذی یبحث عنه الأصولیون فلیس له أعمیّة من وجه أیضاً بالنسبة إلی الدّلیل كما لا یخفی بل الظاهر أنّ الدّلیل أعمّ منه مطلقاً وعلی كلا التقدیرین یكون كلّ من الرّاجح والقاعدة والإستصحاب قسماً من الدّلیل لا قسیماً له.
وامّا ثانیاً فلانّه یمكن ادراج كلّ من الإستصحاب والراجح تحت القاعدة لأنّها ضابطة كلیّة تنطبق علی جزئیّاتها وهی قد تكون مستفادة من
جامعة الأصول، ص: 13
الشّرع وقد تكون مستفادة من العقل، والإستصحاب یصدق علیه انّه ضابطة كلیّة مستفادة من الشّریعة وهذا إن لم یكن ظاهراً فی الراجح بناءً علی أنّ المراد منه الغالب، فلا شكّ فی ظهوره فی الإستصحاب.
وإن أراد انّ هذا مجرّد اصطلاح آخر لا دخل له باللّغة ولا الإصطلاحات الأُوَل فلاضیر فیه الّا أنّ الشأن فی ثبوته.
إذا عرفت هذا فنقول: لما كان طریقتنا فی هذه الرسالة ذكر كلّ أصل أصل من الأصول الّتی تحت هذه الأربعة والإشارة إلی أنّ هذا الأصل تحت أیّ أصل من الأصول الأربعة العامّة بالنسبة إلیه ولا فائدة یعتدّ بها لنا فی أنّ هذه الأمور الأربعة هل هی داخلة تحت لفظ الأصل أم لا أو بعض الأربعة داخل تحت بعض اخر أم لا، فدخول الدّلیل تحت الأصل وعدمه بل اختصاصه بالكتاب والسنّة، ودخول الإستصحاب والرّاجح تحت القاعدة وعدمه، لایضرّ مقصودنا ولا یتفاوت به مطلقاً، بل كلا الأمرین علی السّواء بالنّسبة إلی ما نحن بصدده، فإنّا نذكر كلّ أصل ونشیر إلی أنّه تحت أیّ أصل ممّا هو اعمّ منه اوّلا أی من غیر أن یكون عامّ آخر متوسّطاً بینهما، ولاشكّ أنّ الأصول الّتی نحن نذكرها لیست خارجة عن الأمور الأربعة بل كلّ واحد منها داخل تحت واحد من هذه الأمور الأربعة سواء كان هذا الواحد داخلًا تحت أحد من الثلاثة أم لا.
والأصول الّتی داخلة تحت الأمور الأربعة المذكورة،
جامعة الأصول، ص: 14
منها ماهو داخل تحت واحد منها بدون واسطة، بل دخوله اوّلیّ بمعنی انّه لیس تحت أعمّ اخر ویكون هذا الأعمّ تحت واحد من الأربعة المذكورة بل اوّل اعمّ بالنّسبة إلیه هو أحد الأربعة المذكورة ومنها ما هو داخل تحت ما هو داخل تحت‌الامور المذكورة ومنها ما هو داخل تحت داخل الدّاخل وهكذا إلی ان ینتهی إلی ما لا شی‌ء تحته اصلًا بل كان فرداً معیّناً ونحن نذكر كلّ ما یختصّ باسم خاصّ وإن كان بعضه داخلًا تحت بعض وبعد ذكرها ناتی بالاستدلال علی كلّ واحد منها وان كان بعض منها مشتركاً مع بعض آخر فی جمیع الادلّة أو بعضها نشیر إلی ذلك وبعد تمام الاستدلال بحول اللَّه الملك المتعال نذكر شطراً اخر من الأصول الّتی ذكرها الفقهاء لا سیّما شیخنا المتبحّر الشهید رحمه اللَّه ونشیر إلی أنّ كلّ واحد منها داخل تحت ایّ أصل من الأصول العامّة بالنّسبة إلیه والمختصّة باسم خاصّ لیحصل بذلك للمبتدی‌ء التمرّن والوقوف فی استعمال الأصول ویعلم أنّ كلًّا من الامثلة الّتی یذكرها الفقهاء من أیّ أصل من الأصول المعنونة بعنوان خاصّ.
فنقول: الأصول المستعملة الدّاخلة تحت الاقسام الاربعة منها أصل البراءة وذكر الشهید الثانی (قدّس سرّه) وغیره انّ هذا الأصل داخل
جامعة الأصول، ص: 15
تحت الراجح ویمكن ان یكون داخلًا تحت القاعدة لما عرفت وهو أنّ الأصل خلّو الذمّة عن الشواغل الشرعیّة حتّی ثبت من الشارع دلیل علی خلافه.
ثمّ تحت هذا الأصل أصول لانّه ینقسم اوّلًا إلی قسمین:
اوّلهما أصالة البراءة من حقوق اللَّه تعالی ما لم ینصب علیها دلیل ناقل عنها.
وهذا أیضاً ینقسم إلی قسمین:
الاوّل أنّ الأصل نفی فعل وجودی هو الحرمة بمعنی انّ الأصل فیما لا نصّ فیه الاباحة یعنی إذا كان الشی‌ء دائراً بین الاباحة والحرمة فالأصل فیه الاباحة، ویرجع إلی هذا أصالة الطّهارة فی الاشیاء والحل فی الأعیان والاباحة فی الافعال، فحكم ما لا نصّ فیه بعد بعثة الرّسل كحكم الاشیاء قبلها فإنّها قبل بعثة الرّسل علی الاباحة وستسمع الخلاف الّذی وقع فیه.
الثانی الأصل نفی فعل وجودی بمعنی الوجوب بمعنی انّ ذمم المكلّفین خالیة عن التكالیف الشرعیّة اعنی الوجوب بل الاستحباب حتّی یثبت خلافه من قبل الشریعة.
وثانیهما أصالة براءة الذّمة من حقوق النّاس حتّی یثبت شغلها.
وقیل حجیّة هذا القسم مشروط بان لا یحدث بین هذا الشخص وبین غیره ما یناسب شغل ذمّته وامّا إذا حدث ذلك ففیه نظر كما إذا حبس شخص شاة مرضعة غصباً من مالكه فمات ولد تلك الشاة لأجل منعه من
جامعة الأصول، ص: 16
الرّضاع، أو منع شخص شخصاً من ربط دابّته فهربت فهلكت، فاكثر الفقهاء حكموا بعدم ضمان الغاصب للوالد والدّابة فی الصّورتین لاصالة براءة الذمّة من حقّ المغصوب منه ولم یرد فی الشریعة انّ ذلك یوجب شغلها.
والاولی ان لایفتی الانسان فی مثل هذه المسائل بشی‌ء من النفی والاثبات لأجل أصالة براءة الذمّة، مالم یثبت شغلها لایجوز الحكم بشغل الذّمة، إذ لا یلزم من عدم جواز الحكم بشغل الذمّه جواز الحكم بعدم شغلها فإن الجهل واسطة بینها فینبغی التوقّف فی مثله انتهی حاصل ما قیل وستعرف زیادة توضیح ان شاء اللَّه ومایرد علیه.
ومنها: أصالة نفی الحكم الشّرعی مطلقاً سواء كان وجوباً أو استحباباً أو حرمة أو كراهة وهذا ایضاً داخل تحت الرّاجح.
ومنها: استصحاب حال العقل ای الحالة السّابقة وهی عدم شغل الذّمة أو عدم شی‌ء اخر، فیقال: قبل ذلك لم تكن الذمّة مشغولة فكذا الان حتی یثبت الدّلیل. مثلًا عند خروج المذی، یقال: قبل ذلك لم تكن الذمّة مشغولة بالتكلیف بالوضوء فكذا الان للاستصحاب.
ثمّ إنّ الحالة السّابقة یمكن أن یكون عدم التكلیف وأن یكون العدم الصّرف فیستصحب كلاهما.
والفرق بین هذا القسم من الإستصحاب وأصل البراءة بشیئین:
أحدهما انّ بناء أصل البراءة علی انتفاء الحكم فی الحال ولایلتفت
جامعة الأصول، ص: 17
إلی الحالة السّابقة مطلقاً ولایعتبر فیها اجراء الحكم من السّابق إلی اللّاحق، بخلاف الإستصحاب بهذا المعنی فانّه یلاحظ فیه عدم التكلیف السّابق ویجری الحكم منه إلی اللّاحق.
وثانیهما أنّ أصل البراءة لا یمكن اجراؤه الّا فی نفی التّكلیف، بخلاف هذا الإستصحاب فانّه یمكن اجراؤه فی نفی التكلیف ونفی شی‌ء اخر غیر التكلیف فإنّ عدم كلّ ممكن یستصحب إلی أن یثبت الدّلیل، ولكن فی كلا العدمین یلاحظ الحالة السّابقة ویجری إلی الحالة اللاحقة.
وبما ذكرنا یظهر علیك انّ كلّ موضع یمكن أجراء أصل البراءة فیه یمكن اجراء استصحاب حال العقل فیه ولاعكس إذ یمكن اجراء الإستصحاب المذكور فی عدم امر غیر التكلیف ولایمكن اجراء أصل البراءة فیه.
ثمّ اعلم انّ بعضهم لم یفرّق بین أصل العدم واستصحاب حال العقل بل، قال: هو هو بعینه، لانّ العدم الازلی ثابت لجمیع الممكنات فإذا قلنا: الأصل عدم الشی‌ء الفلانی فالفرض انّه لما كان عدمه ازلیّاً فیجب ان یستصحب حتی یثبت علّة الوجود فحینئذٍ لافرق بین أصل العدم واستصحاب حال العقل.
أقول: قد عرفت انّه یمكن أن ینفی التكلیف من غیر ملاحظة الحالة السابقة، للادلّة الدّالّة علی هذا من الشرع كما ستعرف إن شاء اللَّه العزیز وهو المعبّر بأصل البراءة. وامّا استصحاب حال العقل فلا یمكن اجراؤه الّا
جامعة الأصول، ص: 18
بالملاحظة المذكورة لانّه مقتضی ادلّته كما ستعلم.
وإذا علمت ذلك فنقول: فی أصل العدم اعتبر العدم المطلق سواء كان تكلیفاً أم لا بخلاف أصل البراءة فانّا إذا قلنا فی الدم المشكوك فیه بانّه حیض أم لا: الأصل عدم كونه حیضاً، والأصل عدم صحّة هذا العقد وعدم كون هذا المال من زید إذا لم یكن فی تصرّفه، یصدق علی الاعدام المأخوذة فی الامور المذكورة أصل العدم ولایصدق علیها أصل البراءة، لانّ الامور المذكورة المنفی وجودها بالأصل لیست من التكالیف، وان امكن ارجاعها إلی أصل البراءة بطریق آخر بان یقال: الأصل عدم وجوب اقباض كلّ من المبیعین أو عدم وجوب الاعطاء، الّا انّ هذا طریق اخر، والمراد من الامثلة اعتبار أعدام الامور المذكورة من غیر ارجاعها إلی التكالیف.
وإذا قلنا: الأصل عدم التكلیف وجوباً كان أو ندباً یصدق علیه أصل البراءة والعدم كلیهما لانّ العدم المأخوذ فی أصل العدم اعمّ من ان یكون تكلیفاً أو غیره. فأصل العدم اعمّ مطلقاً من أصل البراءة.
ثمّ ما ینفی بأصل العدم ان كان تكلیفاً فیمكن نفیه من غیر ملاحظة الحالة السابقة نظراً إلی ادلّة البراءة وان كان غیر التكلیف فلا یمكن نفیه الّا بالملاحظة المذكورة لیُثبت بادلّة الإستصحاب ولایمكن اثباته مع قطع النّظر عن ادلّة الإستصحاب كما ستعرف ان شاء اللَّه تعالی فی اواخر الفصل الاوّل بل هذا الجزء یرجع إلی استصحاب حال العقل فأصل العدم
جامعة الأصول، ص: 19
ان لم یلاحظ فی جزءه الّذی هو التكلیف الحالة السّابقة ولوحظت فی الّذی هو غیر التكلیف، یكون مركبّاً من أصل البراءة واستصحاب حال العقل ولیس عین استصحاب حال العقل، لانّه یجب فیه ملاحظة الحال السّابقة والّا خرج عن كونه استصحاباً، وقد عرفت انّه یمكن عدم الملاحظة فی أصل العدم نظراً إلی جزءه الّذی هو التّكلیف نعم ان لوحظ الحالة السّابقة فیه ایضاً یرجع إلی استصحاب حال العقل.
ثمّ اعلم انّ أصل العدم باعتبار جزءه الّذی لیس بالتكلیف والحكم الشّرعی ینقسم ثلاثة اقسام:
احدهما أصل العدم فی شبهة موضوع الحكم الشرعی كما إذا وجد لحم ولایدری هل هو میتة أم لا فیقال: الأصل عدم كونه میتة.
وثانیها أصل العدم فی متعلّقات الحكم الشّرعی كما یقال: الأصل عدم النقل.
وثالثها أصل العدم فی الامور الّتی لیست من الاحكام الشرعیّة ولامن موضوعاتها ولا من متعلّقاتها كما یقال: الأصل عدم حدوث الشّی‌ء الفلانی ولم یكن هذا الشّی‌ء من الحكم الشّرعی ولا من موضوعاته ولا من متعلّقاته.
وینقسم استصحاب حال العقل باعتبار الجزء المذكور ایضاً إلی الاقسام المذكورة كما لا یخفی.
ومنها: استصحاب حال الشّرع ومحلّه ان یثبت حكم شرعی‌فی‌وقت
جامعة الأصول، ص: 20
ویجی‌ء وقت آخر ولایوجد دلیل علی انتفاءه فی هذا الوقت فالحكم ببقاء الحكم علی ما كان هو الإستصحاب وبعبارة اخری هو التمسّك بثبوت ما ثبت فی وقت أو حال علی بقائه فیما بعد ذلك الوقت أو فی غیر تلك الحال فیقال: الامر الفلانی قد كان وعدمه لیس بمعلوم، فالأصل بقاؤه مثل ان یقال فی مثال المذی: ان التطهّر كان ثابتاً قبل وقوع المذی فكذا بعده عملا بالإستصحاب.
وكلّ واحد من استصحاب حال العقل والشرع ینقسم إلی قسمین:
احدهما ان یعلم بثبوت حكم لمحلّ وعلم ایضاً بثبوت حكم مبطل مخالف للحكم الاوّل لعارض من عوارض ذلك المحلّ ولكن حصل الشكّ فی وقوع هذا العارض، فیقال: الأصل عدمه مثلًا إذا علمنا انّ زیداً متطهّر وعلمنا انّ الرّیح من الموضع المعتاد ناقض للتطهّر ولكن یحصل الشكّ فی حصول الرّیح فیقال: الأصل عدمه وبعبارة أخری ان یقال ثبوت الحكم الشّرعی لموضوع معیّن معلوم ولكن حصل الشكّ فی وقوع هذا الموضوع وعدمه فیقال: الأصل عدم الوقوع بالإستصحاب والمثال كما ذكر ثمّ إن قلنا فی المثال: ان التطهّر كان ثابتاً قبل ذلك فالاصل بقاؤه إلی ان یثبت المزیل یكون إستصحاب حال الشرع وان قلنا: انّ قبل ذلك لم یكن الذّمّة مشغولة بالوضوء فكذا الآن إلی ان یثبت الدّلیل یكون إستصحاب حال العقل.
جامعة الأصول، ص: 21
وهذا القسم من الإستصحاب سواء كان من إستصحاب حال الشرع أو العقل هو الإستصحاب فی موضوع الحكم الشّرعی.
وثانیهما: ان یعلم ثبوت حكم لمحلّ وعلم وجود عارض من عوارض هذا المحل ولكن حصل الشكّ فی أنّ لهذا العارض حكماً مبطلًا للحكم الاوّل أم لا.
أو یقال بعبارة أخری: وجود موضوع معلوم ثابت جزماً ولكن حصل الشكّ فی ثبوت حكم شرعی لهذا الموضوع وعدمه فیقال: الأصل عدمه نظراً إلی الإستصحاب كما إذا علمنا تطهّر زید وعلمنا وجود الحدث من غیر الموضع الطبیعی ولكن حصل الشكّ فی أنّ هذا النّوع من الحدث هل هو مبطل للتطهّر أم لا؟ فإن قلنا: إنّ التطهّر قبل ذلك كان حاصلًا فكذا الآن عملًا بالإستصحاب یكون إستصحاب حال الشرع، وإن قلنا: قبل ذلك لم یكن الذّمّة مشغولة بالوضوء فكذا الآن یكون إستصحاب حال العقل ومن هذا القبیل إذا حصل الیقین بوقوع المذی ولكن حصل الشكّ فی ناقضیّته للوضوء وهذا القسم من الإستصحاب هو الإستصحاب فی نفس الحكم الشّرعی.
ثمّ إنّ صاحب الذخیرة وبعضا اخر انكروا حجیّة القسم الثانی وستعلم حقیقة الحال ثمّ انّ الإستصحاب الّذی ذكرناه هو الإستصحاب المتعلّق بنفس
جامعة الأصول، ص: 22
الحكم الشّرعی وموضوعه.
وهنا قسم آخر من الإستصحاب لا یكون فی الحكم الشّرعی ولا فی موضوعه، بل امّا أن یكون فی متعلّق الحكم الشّرعی أو لا یكون فیه ایضاً.
فالأوّل: مثل الأصل بقاء المعنی اللغوی علی حاله فإن ذلك خارج عن الاحكام الشرعیّة وموضوعاتها الّا انّ له مدخلیّة فی الجملة فیها.
والثانی: كما إذا علم رطوبة ثوب مثلًا فی زمان ثمّ حصل الشكّ بعد ذلك بانّه رطب أم صار یابساً فیقال: الأصل بقاء الرّطوبة علی ما كان علیه. وهذا القسم لا دخل له بالأحكام الشرعیّة إلّا بالعرض.
ومنها: أصالة عدم تقدّم الحادث، كأن یقال فی الماء الّذی وجد فیه نجاسة بعد الإستعمال ولایدری انّ النّجاسة قبل الإستعمال كان موجوداً فی الماء أووقع فیه بعده: الأصل عدم تقدّم النّجاسة علی الإستعمال، فلا یجب غسل مالاقی هذا الماء قبل رؤیة النّجاسة وستعلم إن شاء اللَّه تعالی انّ هذا الأصل إلی ایّ الأصول راجع.
ومنها: التمسّك بعدم الدّلیل فیقال عدم الدّلیل علی الحكم یدل علی انتفائه وتعلم إن شاء اللَّه ایضاً انّ مرجعه إلی ایّ الأصول.
ومنها: الأخذ بالأقلّ عند فقد الدّلیل علی الأكثر، كما إذا قیل: فی عین الدّابة نصف قیمتها، فیردّ بأنّ الرّبع ثبت إجماعاً فینفی الزائد بالأصل وهذا الأصل مرجعه إلی أصل البراءة.
ومنها: الأصل فی‌الكلام الحقیقة، وهذا یمكن أن یكون داخلًاتحت
جامعة الأصول، ص: 23
الرّاجح، ویمكن أن یكون داخلًا تحت القاعدة وستعلم إن شاءاللَّه حقیقة الحال.
ومنها: أصالة نفی تخصیص العام إلی ان یثبت المخصّص.
ومنها: أصالة نفی تقیید المطلق إلی أن یثبت المقیّد.
ومنها: أصالة نفی النسخ إلی ان یثبت النّاسخ.
ومنها: أصالة نفی الاشتراط بشرط مختلف فیه إلی ان یثبت وستعلم انّ هذه الاربعة إلی أیّ الأصول راجعة.
ومنها: الكتاب المعتمد كما یقال: أصل حریز وأصل محمّد بن مسلم وأصل زرارة.
ومنها: الأصل فی الاشیاء الطّهارة، وهذا یرجع إلی أصل البراءة كما ستعرف إن شاء اللَّه العزیز.
وبما ذكرنا تعرف انّ ما یطلق علیه اسم الأصل وان كان البعض داخلًا فی بعض تسعة عشر اصلًا.
الاوّل الدلیل كالكتاب والسنّة والبرهان.
والثانی القاعدة.
والثالث الحالة الرّاجحة.
والرابع أصل البراءة بمعنی نفی الحرمة.
الخامس أصل البراءة بمعنی نفی الوجوب.
السادس أصل البراءة بمعنی نفی مطلق الحكم.
جامعة الأصول، ص: 24
السابع أصل عدم الممكن.
الثامن إستصحاب حال العقل.
التّاسع إستصحاب حال الشرع.
العاشر أصالة عدم تقدّم الحادث.
الحادی عشر أصالة التمسّك بعدم الدلیل.
الثانی عشر الاخذ بالاقلّ عند فقد الدّلیل علی الاكثر.
الثالث عشر الأصل فی الكلام الحقیقة.
الرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر والسابع عشر أصالة نفی التخصیص والتقیید والنسخ والشرط الثامن عشر الكتاب المعتمد.
التاسع عشر أصالة الطّهارة فی الاشیاء.
ولمّا كان الأصل بمعنی الدّلیل لا یحتاج إلی الاستدلال لظهور حجیّة الكتاب والسنّة والبرهان فلا نتعرّض لذكر الاستدلال علیه.
والأصل بمعنی القاعدة لا یمكن علیه الاستدلال بالاطلاق لّان القواعد كثیرة والمعتبرة منها ماكان بدیهیّاً أو نظریّاً مثبتاً من دلیل عقلی أو نقلیّ.
وكذا الحكم بعینه فی الأصل بمعنی الرّاجح لانّ المعتبر من الرّاجح ما یكون رجحانه حاصلًا ممّا یرتضیه مذاق الشّرع أو العقل.
والأصل بمعنی نفی مطلق الحكم یثبت بعد اثبات أصل البراءة بمعنی
جامعة الأصول، ص: 25
نفی الحرمة وأصل البراءة بمعنی نفی الوجوب والاستحباب فلا یحتاج إلی الاستدلال علیه بعنوان انّه مطلق.
والأصل العدم ایضاً لا یحتاج إلی الاستدلال علیحدة كما عرفت وستعرف إن شاء اللَّه.
والأصول الاربعة: الرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر والسابع عشر حكمها واحد وطریق الاستدلال علیها واحد بعینه فلا یحتاج إلی الاستدلال علی كلّ واحد علیحدة بل نعنون لاربعتها عنواناً واحداً.
والأصل بمعنی الكتاب المعتمد لا یحتاج إلی دلیل وهو ظاهر فخرج من تسعة عشر تسع وبقی الأصول المحتاجة إلی الاستدلال عشرة أصول نعنون لكلّ واحد عنواناً علیحدة.
ونزید عنوانین آخرین:
أحدهما: لاصل الاباحة فی الشبهة لطریق الحكم.
وثانیهما: لذكر شطر من الأصول الّتی استعملها الفقهاء والاشارة إلی انّها من أی قسم من الاقسام المذكورة.
ولما ذكرنا رتّبنا رسالتنا هذه علی اثنی عشر فصلًا:
الفصل الاوّل فی أصل البراءة بالمعنی الاوّل یعنی أصل الاباحة فیما لانصّ فیه.
الفصل الثانی فی أصل البراءة بالمعنی الثانی اعنی نفی الوجوب والاستحباب.
جامعة الأصول، ص: 26
الفصل الثالث فی حكم الشبهة فی طریق الحكم الشّرعی.
الفصل الرابع فی إستصحاب حال العقل.
الفصل الخامس فی إستصحاب حال الشرع ونشیر فیه إلی جمیع الاقسام التی تحته.
الفصل السادس فی أصالة عدم تقدّم الحادث.
الفصل السابع فی أصالة التّمسّك بعدم الدلیل.
الفصل الثامن فی الاخذ بالاقلّ عند فقد الدلیل علی الاكثر.
الفصل التاسع فی انّ الأصل فی الكلام الحقیقة.
الفصل العاشر فی أصالة نفی التخصیص والتقیید والنسخ والاشتراط.
الفصل الحادی عشر فی انّ الأصل فی الاشیاء الطّهارة.
الفصل الثانی عشر فی ذكر بعض الأصول الداخلة تحت الأصول المذكورة وهی الّتی ذكر اكثرها شیخنا المتبحّر الشهید رحمه اللَّه والاشارة الی أن كلّ واحد منها داخل تحت أیّ أصل من الأصول المذكورة.
جامعة الأصول، ص: 27
الفصل الأوّل: فی أصل البراءة بالمعنی الاوّل اعنی أصل الاباحة

الفصل الاوّل فی أصل البراءة بالمعنی الاوّل اعنی أصل الاباحة

اعلم انّه اختلف فی انّ الأصل فی الاشیاء الّتی لم یرد بها نصّ، الحلّ أم لا؟ وكذا فی انّ الأصل فی الافعال كذلك الاباحة أم لا؟
فمعظم الاصولیّین علی انّ الأصل فیهما الحلّ والاباحة مطلقاً وذهب بعض العلماء إلی وجوب التوقّف إذا احتمل الحرمة ولم یكن من الشّبهة فی طریق الحكم. والتوقّف امّا بمعنی عدم العلم باحد الطرفین مع عدم الخلوّ عنه فی الواقع أو بأنّه لا حكم فی الواقع. وامّا إذا لم یحتمل الحرمة أو كان من الشّبهة فی طریق الحكم فمتفقون مع المعظم وبعضهم قال بالتوقّف مطلقاً وذهب بعضهم إلی وجوب الإحتیاط علی ما یفهم من كلام البعض.
جامعة الأصول، ص: 28
والاكثر صرّحوا بأنّ القائلین بالإحتیاط هم القائلون بالتوقّف فإنّهم یتوقّفون فی الفتوی ویحتاطون فی العمل وسیجی‌ء ان شاء اللَّه العزیز انّ المفهوم من الاخبار انّ التوقّف اخصّ من الإحتیاط. وعلی كلا التقدیرین «1» یلزم انّ الإحتیاط لیس قولًا علیحدة فی المسألة بل القول بالتوقّف و الاحتیاط قول واحد كما تعرف.
و ممّا یدلّ علی ذلك ما قال الشهید الثانی رحمه اللَّه فی التمهید «2» أنّ فی المسألة ثلاثة أقوال: الاباحة و التوقّف والحرمة. وكذا قال الشیخ فی العدّة «3» وغیرهما ایضاً كذا قالوا ومنهم من قال بأنّ الأصل فیهما الحرمة فبعضهم قال بالحرمة ظاهراً وبعضهم قال بها واقعاً ثمّ انّه لا فرق بین الاشیاء أو الافعال قبل بعثة الرّسل وما لا نصّ فیه بعد بعثة الرّسل فی جریان الخلاف المذكور علی ما یظهر من كلام البعض وبعض الاصولیین كالآمدی وفخرالدّین الرّازی وتابعیهم اطلقوا القول فی الشقّ الثانی بالإباحة ولم یتعرّضوا لنقل الخلاف، ونقلوا الخلاف فی الاشیاء قبل بعثة الرّسل ولایخفی انّه لا فرق بینهما فما یحتمل أحدهما یحتمل الاخر وكلّ ما
______________________________
(1) فی بعض النسخ: «الّا انّه علی هذا ایضاً» مكان «و علی كلا التقدیرین»
(2) تمهید القواعد، ص 66
(3) عدّة الاصول 2/ 741 تحقیق محمد رضا الانصاری
جامعة الأصول، ص: 29
یمكن ان یستدلّ به لاحدهما علی ایّ مذهب یمكن ان یستدلّ به للآخر كذلك. فالظاهر انّ الخلاف مشترك وعدم تعرّض البعض كأنّه للظهور ومحلّ الخلاف هو الاشیاء والافعال اللّتان لم تكونا اضطراریتین والّا فالاصل فیهما الحلّ والاباحة بلا خلاف لاحد من العقلاء فأصول المذاهب فی المسألة اربعة والحقّ انّ الأصل فیهما الحلّ والاباحة كما هو المذهب المعظم فلا بدّ لنا اوّلًا من الاستدلال علی المذهب المختار ثمّ ذكر ادلّة كلّ واحد من مذاهب الخصوم وردّها علی وجه یرتضیه العقول السّلیمة ویقبله الفهوم المستقیمة.
جامعة الأصول، ص: 30

[حجّة القول المختار]

اشاره

اعلم انّ الأدلّة الدّالّة علی انّ الأصل فی الاشیاء الحلّ قبل بعثة الرّسل وكذا فیما لا نصّ فیه بعد بعثتهم وكذا الحكم فی الافعال امور.

الاوّل: الآیات‌

وهی كثیرة.
منها قوله تعالی: خَلَقَ لَكُمْ ما فِی الْأَرْضِ جَمِیعاً «1» وهذه الایة تدلّ علی حلیّة الاشیاء مطلقاً ولا تدلّ علی اباحة الافعال كما لا یخفی ثمّ انّ هذه الایة تدلّ علی العموم لا علی فرد خاصّ من ما فی الارض لانّ لفظة «ما» ظاهرة فی العموم فیكون المعنی انّ جمیع ما فی الارض خلق لانتفاعكم فیكون مباحاً لكم الّا ما ثبت تحریمه بدلیل آخر لایقال: انّ نوع الانتفاع غیر معلوم فیجوز ان یكون لكلّ شی‌ء انتفاع خاصّ غیر معلوم فلا یمكن الاستدلال بالآیة لأنّا نقول: لا شكّ انّ اللَّه تعالی فی مقام الامتنان فیجب ان یراد عموم الانتفاع كیف وان كان المراد فرداً خاصّاً غیر معلوم یحكم العقل بوجوب الاجتناب من جمیع افراد الانتفاع لاحتمال الضّرر ایضاً حینئذٍ وكیف یناسب هذا بمقام الامتنان فالمراد عموم انواع الانتفاع.
______________________________
(1) البقرة: 39
جامعة الأصول، ص: 31
ومنها قوله تعالی: إِنَّما حَرَّمَ عَلَیْكُمُ الْمَیْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِیرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَیْرِ اللَّهِ بِهِ «1» ووجه الاستدلال به علی إباحة كلّ الاشیاء سوی الامور المذكورة ظاهر.
والاستدلال به ایضاً مخصوص بإباحة الاشیاء دون الافعال.
ومنها قوله تعالی: یا أَیُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِی الْأَرْضِ حَلالًا طَیِّباً «2» لا یقال: یمكن أن یكون لفظة «من» تبعیضیّة فلا یفید الآیة إباحة جمیع الاشیاء.
لأنّا نقول: یلزم حینئذٍ ان لا یكون هذا البعض معیّناً وهذا غیر مناسب لمقام الإمتنان.
نعم إن كان المراد من البعض البعض الّذی لم یثبت حرمته یكون صحیحاً وحینئذٍ ثبت المطلوب.
ومنها قوله تعالی: قُلْ لا أَجِدُ فِی ما أُوحِیَ إِلَیَّ مُحَرَّماً عَلی طاعِمٍ یَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ یَكُونَ مَیْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِیرٍ «3» قال بعض الفضلاء: فی هذه الآیه اشعار بأنّ إباحة الأشیاء مركوزة فی
______________________________
(1) النحل: 115
(2) البقرة: 168
(3) الانعام: 145
جامعة الأصول، ص: 32
العقل قبل الشّرع لانّها فی صورة الاستدلال علی الحلّ بعدم وجدان التّحریم الّا للاشیاء الخاصّة.
ومنها قوله تعالی: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَیْكُمْ «1»- الایة-.
ومنها قوله تعالی: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّیَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ «2»- الآیة- والآیتان الاخیرتان تدلّان علی اباحة الاشیاء والافعال جمیعاً.
ولایخفی انّه یمكن المناقشة فی دلالة بعض هذه الایات علی الاباحة والحلّیّة قبل البعثة ولایضرنا ذلك لانّا لم ندّع انّ كلّ الایات والاخبار تدلّ علی كلّ واحد من الاقسام الّاربعة بل یدلّ المجموع علی المجموع ولذا فی كلّ واحد من الآیات والاخبار نشیر إلی انّه یدلّ علی أیّ قسم من الاقسام الاربعة.
ومنها قوله تعالی: وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِینَ حَتَّی نَبْعَثَ رَسُولًا «3» ودلالته علی حلّیّة الاشیاء واباحة الافعال قبل بعثة الرّسل ظاهرة غیر خفیّة وكذا بعد بعثة الرّسل ایضاً إذا كانت الاشیاء والافعال ممّا لم یرد بها نصّ لانّه لاشكّ انّ عدم العذاب قبل بعثة الرّسل انّما كان لاجل عدم بلوغ
______________________________
(1) الانعام: 151
(2) الاعراف: 33
(3) الاسراء: 15
جامعة الأصول، ص: 33
التكلیف إلیهمّ ولا شكّ انّ هذا الامر فیما لا نصّ فیه موجود بعد البعثة ایضاً.
ومنها قوله تعالی: لا یُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها «1» و دلالتها علی الشقوق الاربعة ظاهرة.
ومنها قوله تعالی: وَ ما كانَ اللَّهُ لِیُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّی یُبَیِّنَ لَهُمْ ما یَتَّقُونَ «2» وهذه دلالتها منحصرة علی ما بعد البعثة مطلقاً.
ومنها قوله تعالی: لِیَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَیِّنَةٍ وَ یَحْیی مَنْ حَیَّ عَنْ بَیِّنَةٍ «3» ووجه الاستدلال به ظاهر. وهذه الایة تدلّ علی الاباحة فی الشقوق الاربعة كما لایخفی.
(وهنا بعض آخر من الآیات استدل به طائفة من اصحابنا علی هذا المطلوب ولكن لمّا كان دلالته غیر صریحة عندی ما ذكرته هنا ولكن أشیر إلیه إن شاء اللَّه فی طیّ الاخبار هذه جملة من الایات الّتی یمكن الاستدلال بها علی هذا
______________________________
(1) الطلاق: 7
(2) التوبة: 115
(3) الانفال: 42
جامعة الأصول، ص: 34
المطلوب) «1» ویمكن الاستدلال بآیات كثیرة اخر الّا انّ ما ذكرنا كاف لاثبات المطلوب.

الثانی: الاخبار

وهی كثیرة غایة الكثرة.
فمنها: ما یدلّ علی الشقوق الاربعة اعنی اباحة الاشیاء والافعال قبل البعثة وبعدها.
الاولی: ما روی ابن بابویه فی «من لایحضره الفقیه» فی باب القنوت بالفارسیّة عن الصّادق (علیه السّلام) قال: «كلّ شی‌ء مطلق حتّی یرد فیه نهی «2»» وروی الشیخ بدل «نهی» قوله «امر او «3» نهی» «4».
الثانیة: ما رواه الكلینی عن عدّة من اصحابنا عن احمد بن محمّد بن خالد عن علیّ بن الحكم عن أبان الاحمر عن حمزة بن الطیّار عن أبی‌عبداللَّه (علیه السّلام) قال: قال لی: اكتب فاملی علیّ: ان من قولنا انّ اللَّه یحتج علی العباد بما آتاهم و عرّفهم ثمّ ارسل الیهم رسولًا و انزل علیهم
______________________________
(1) ما بین () موجود فی بعض النسخ
(2) الفقیه 1/ 317. روضة المتقین 2/ 349
(3) فی بعض النسخ: ونهی.
(4) جامع احادیث الشیعة الطبعة الاولی 1/ 89 نقلًا عن امالی الشیخ الطوسی الطبع الحجری صفحه 63 و فیه: «امر ونهی»
جامعة الأصول، ص: 35
الكتاب فامر فیه ونهی امر فیه بالصّلاة والصیّام «1»- الحدیث- وجه الاستدلال به انّ الخبر یدلّ علی انّ العقاب والعتاب لا یكونان الّا بعد البیان فقبله لا یكون تحریم حتّی بسببه صار مستحقّاً للعقاب.
الثالثة: ما رواه فی «الكافی» فی باب التعریف والحجّة والبیان «2» عن احمد بن محمّد بن یحیی العطار عن احمد بن محمّد بن عیسی عن أبن فضّال عن داود بن فرقد عن ابی‌الحسن زكریا بن یحیی عن أبی عبداللَّه (علیه السّلام) قال: ما حجب اللَّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم «3» ووجه الاستدلال كما مرّ ورواه فی الكافی فی باب حجج اللَّه علی خلقه ایضاً «4».
الرابعة: ما روی ابن بابویه عن حفص بن غیاث القاضی قال قال أبوعبداللَّه (علیه السّلام) من عمل بما علم كفی مالم یعلم «5».
وجه الاستدلال به انّه (علیه السّلام) بیّن انّ العمل بما لم یبلغ إلیه علمه ساقط
______________________________
(1) الكافی 1/ 164
(2) لیس هذا العنوان فی ابواب الكافی نعم هو موجود فی توحید الصدوق فراجع
(3) لم ترد هده الروایة بهذا السند فی الكافی بل فی توحید الصدوق 413 فی باب التعریف والحجّة والبیان
(4) الكافی 1/ 164 فی باب حجج اللَّه عل خلقه. وفیه «محمد بن یحیی» مكان «احمد بن محمد بن یحیی»
(5) الوسائل 27/ 164 نقلًا عن التوحید 416 و ثواب الأعمال 161
جامعة الأصول، ص: 36
فهنا لما لم یبلغ إلیه الحرمة فهی ساقطة عنه لا یقال: انّ الاباحة ایضاً لم یبلغ إلیه علمها لأنّا نقول: یفهم منه عدم المؤاخذة ولامعنی حینئذٍ سوی الاباحة.
الخامسة: مارواه الصّدوق (قدّس سرّه) فی كتاب «التوحید» عن عبداللَّه بن جعفر الحمیری عن احمد بن محمّد بن عیسی عن الحجال «1» عن ثعلبة بن میمون عن عبدالاعلی بن اعین قال: سألت أبا عبداللَّه (علیه السّلام) عمّن لم یعرف شیئاً هل علیه شی‌ء؟ قال لا «2» ووجه الاستدلال بها فی غایة الظهور.
السادسة: ما ورد عن الصّادق (علیه السّلام) علی ما رواه ثقة الاسلام فی «الكافی» انّ الحجّة لا تقوم للَّه علی خلقه الّا بامام حتی یعرف «3».
السابعة والثامنة: روایتان اخریان بمضمون هذه الرّوایة مذكورتان فی «الكافی» ایضاً «4».
التاسعة: ما ورد من قولهم (علیهم السّلام): انّ اللَّه احتجّ علی النّاس بما آتاهم [ما] وعرّفهم «5».
______________________________
(1) الحجاج خ
(2) التوحید 412
(3) الكافی 1/ 177
(4) الكافی 1/ 177
(5) التوحید 410 و 411
جامعة الأصول، ص: 37
العاشرة: ما ورد عنهم (علیهم السّلام) فی تفسیر قوله تعالی: وَ ما كانَ اللَّهُ لِیُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّی یُبَیِّنَ لَهُمْ ما یَتَّقُونَ «1» من قولهم: حتّی یعرفهم ما یرضیه وما یسخطه «2».
الحادیة عشر: ما رواه عبدالاعلی بن أعین عن أبی‌عبداللَّه (علیه السّلام) قال: قلت له: اصلحك اللَّه هل جعل فی النّاس اداة ینالون بها المعرفة؟ قال: فقال: لا، فقلت: فهل كلّفوا المعرفة؟ قال: لا، علی اللَّه البیان قال: لا یُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها «3» و لا یُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها «4» قال: وسألته عن قوله: وَ ما كانَ اللَّهُ لِیُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّی یُبَیِّنَ لَهُمْ ما یَتَّقُونَ «5» قال: حتّی یعرّفهم ما یرضیه ویسخطه «6».
الثانیة عشر: ما ورد من قولهم (علیهم السّلام) النّاس فی سعة مالم یعلموا «7».
الثالثة عشر: ما رواه الكلینی من قولهم (علیهم السّلام): لیس للَّه علی الخلق
______________________________
(1) التوبه: 115
(2) التوحید 411
(3) البقرة: 233
(4) الطلاق: 7
(5) التوبة: 115
(6) التوحید 414
(7) الكافی 6/ 297 و راجع كتابنا «سی مقاله» 157- 169
جامعة الأصول، ص: 38
ان یعرفوا وللخلق علی اللَّه ان یعرّفهم وللَّه علی الخلق إذا عرفهم ان یقبلوا «1» ووجه الاستدلال به انّ المراد لیس للَّه علی الخلق ان یعرفوا شیئاً من احكامه مطلقاً بل یجب علی اللَّه ان یعرّفهم كلّ واحد واحد من احكامه فكلّ ما لم یعرّفهم من احكامه لیسوا مكلّفین به.
فإن قلت: هل یمكن الاستدلال علی المطلوب بالاخبار الواردة فی معذوریّة الجاهل كقوله (علیه السّلام): «ایّما امرء ركب امراً بجهالة فلیس علیه شی‌ء» «2».
وماورد عن الصّادق (علیه السّلام) حین سئل عن الرّجل یتزوج المرأة فی عدّتها بجهالة أهی ممّن لا تحلّ له أبداً فقال: لا امّا إذا كان بجهالة فلیتزوّجها بعد ما تنقضی عدّتها وقد «3» یعذر النّاس فی الجهالة بما هو أعظم من ذلك فقلت: بأیّ الجهالتین اعذر «4» بجهالته [ان یعلم] ان ذلك محرّم علیه أم بجهالته انّها فی عدّة؟ فقال: احدی الجهالتین أهون من الاخری. الجهالة بأنّ اللَّه حرّم ذلك علیه وذلك «5» انّه لایقدر علی
______________________________
(1) الكافی 1/ 164
(2) تهذیب الأحكام 5/ 73
(3) فقد. خ
(4) فی الكافی: «یعذر» مكان «أعذر»
(5) كذ فی الاصل و فی الكافی «وذلك بأنّه» و فی الفرائد للشیخ الانصاری: «وذلك لأنّه»
جامعة الأصول، ص: 39
الإحتیاط معها فقلت: فهو فی الاخری معذور فقال: نعم «1»- الحدیث-.
قلت: الاستدلال بالمطلوب بهذین الخبرین وامثالهما لایخلو عن اشكال، وذلك لّان الجهالة ان یعتقد ویعلم انّ الامر الفلانی حكمه كذا ففعله بهذا الاعتقاد مع انّه لم یكن الامر المذكور حكمه كذلك، وامّا إذا كان الامر المذكور عنده محتملًا لهذا الحكم وحكم آخر ففعل أحدهما فالظاهر عدم شمول الاخبار الواردة فی الجهالة له، وما نحن فیه من قبیل الثانی لا الاوّل. غایه ما فی الباب انّ المكلّف إذا اعتقد فیما لا نصّ فیه- لشبهة أو غیرها- انّ حكمه الاباحة لم یكن علیه شی‌ء لا إذا كان كلّ من الاباحة والحرمة وغیرهما محتملًا وبالجملة لا یمكن الاستدلال بهذه الاخبار علی هذا المطلوب مطلقاً.
فإن قلت: هل یمكن الاستدلال علی هذا المطلوب بالآیات الواردة فی انّ الهدایة من اللَّه وانّه تعالی هدی النّاس مثل قوله تعالی: إِنَّا هَدَیْناهُ السَّبِیلَ إِمَّا شاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً «2» وورد فی تفسره عنهم (علیهم السّلام) یعنی عرفناه ما أخذ وماترك، «3»
______________________________
(1) الكافی 5/ 427
(2) الإنسان: 3
(3) تفسیر الصافی ذیل الآیة وفیه: فی الكافی والتوحید صفحه 411 عن الصادق (علیه السّلام) امّا آخذاً و امّا تاركاً
جامعة الأصول، ص: 40
وقوله تعالی: وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَیْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمی عَلَی الْهُدی «1» وورد فی هذه الایة: وهم یعرفون «2» وورد فیها ایضاً: بیّنا لهم «3» وقوله تعالی فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها «4» وقال (علیه السّلام) فی تفسیره: «بیّن لها ما تأتی وما تترك» «5».
وقوله تعالی: وَ هَدَیْناهُ النَّجْدَیْنِ «6».
قلت: غایة ما یلزم من هذه الآیات انّ الهدایة والبیان وإراءة طریقی الحقّ والباطل منه تعالی وبعد هدایته صار واحد من النّاس علی الهدی واخر علی خلافها و [أمّا] انّ قبل الهدایة والبیان فكیف كان امرهم فلایدلّ هذه الآیات علیه ولیس فیها ما یدلّ علی انّ قبل الهدایة كان ذممهم بریئة عن جمیع التكالیف.
نعم یمكن ان یقال: دلّت الآیات المذكورة علی انّ قبل الهدایة
______________________________
(1) فصلت: 17
(2) الصافی ذیل الآیة نقلًا عن توحید الصدوق
(3) تفسیر البرهان 4/ 782 نقلًا عن الكافی 1/ 163
(4) الشمس: 8
(5) البرهان 4/ 782 نقلًا عن الكافی 1/ 163
(6) البلد: 10. فی توحید الصدوق صفحه 411: قال ابوعبداللَّه (علیه السّلام): نجد الخیر والشرّ.
جامعة الأصول، ص: 41
ماكانوا قادرین علی أمر أصلًا لا علی ما یجب أن یأخذوا به ولا علی ما یجب أن یتركوا، لعدم علمهم بهذا وكون بیانه موكولًا علی اللَّه سبحانه، فیعلم منه أنّهم لم یكونوا مكلّفین والّا كان تكلیفاً بما لایطاق ولایخفی انّ هذا الاستدلال لیس من مجرّد الآیات بل بضمیمة العقل كما لایخفی، فتأمّل.
ویمكن أن یقال: انّ الآیات المذكورة والاخبار الواردة فی تفسیرها تدلّ علی انّ بیان طریقی الحقّ والباطل علی اللَّه فقبل بیانه لایوجد شی‌ء من الاحكام أعنی الوجوب والحرمة فیكون الاشیاء علی الاباحة.
ومنها: ما یدلّ علی الشقّین أعنی حلّیّة الاشیاء دون الافعال سواء كان قبل البعثة أو بعدها.
كروایة عبداللَّه بن سنان عن أبی عبداللَّه (علیه السّلام) قال: «كلّ شی‌ء یكون فیه حرام وحلال فهو حلال لك ابداً حتی تعرف الحرام منه بعینه فتدعه» «1».
وهذا الخبر مذكور فی النوادر من المعیشة من «الكافی» قال صاحب الفوائد المكیّة: انّ الاستدلال بمثل هذا الحدیث علی الحلّ إذا كان الحیرة والاشتباه فی حكم اللَّه تعالی فهو من اغلاط المتأخرین بل مرادهم (علیهم السّلام) الاشتباه فی فرد من الاجناس الّتی علمنا انّ بعض افرادها حلال وبعض افرادها حرام كاللحم والجبن لا فی الحكم
______________________________
(1) الكافی 5/ 313. و راجع المحاسن 495
جامعة الأصول، ص: 42
الّتی لم نعلم حكمها اصلًا- انتهی- «1».
وكلامه هنا غیر بعید عن الصّواب لدلالة قوله (علیه السّلام): «یكون فیه حرام وحلال» علی ماذكره، فالتعمیم غیر مستفاد من الخبر الّا انّك ستعرف إن شاء اللَّه فی فصل الشبهة فی طریق الحكم حقیقة الحال.
ومنها: ما یدلّ علی شقّین آخرین أعنی الاشیاء أو الافعال بعد البعثة كصحیحة حریز بن عبداللَّه عن أبی عبداللَّه قال: قال رسول اللَّه (صلّی اللَّه علیه و آله): «رفع عن امّتی تسعة: الخطأ والنسیان وما استكرهوا علیه ومالا یطیقون ومالا یعلمون وما اضطرّوا إلیه والحسد والطّیرة والتفكّر فی الوسوسة فی الخلق ما لم ینطقوا بشفة» «2».
وهذا الحدیث مذكور فی كتاب «التوحید» للصّدوق وفی أوائل «من لایحضره الفقیه» «3» وما نحن فیه داخل فیما لایعلمون.
وممّا یدلّ علی المطلوب الاخبار الواردة الدالّة علی انّ التكلیف لم یتعلّق بأحد الّا بعد بعثة الرّسل لیهلك من هلك عن بیّنة ویحیی من حیّ عن بیّنة «4».
______________________________
(1) راجع الفوائد المدنیّة صفحه 148
(2) التوحید 353. الخصال 2/ 44. الوسائل 11/ 295 طبع الاسلامیّة
(3) الفقیه 1/ 59. الوسائل الباب 37 من ابواب قواطع الصلاة
(4) راجع توحید الصدوق صفحه 45، والبحار 5/ 298 الباب 14 من كتاب العدل و المعاد
جامعة الأصول، ص: 43
وكذا الاخبار الواردة الدّالة علی انّ المجانین والاطفال واشباههم معذورون ویتعلّق التكلیف بهم فی یوم القیامة «1» وقد نقل تواتر هذین القسمین من الاخبار.
وكذا یدلّ علیه الاخبار الواردة فی انّ الزّمان لایخلو عن امام معصوم لیعرّف النّاس ما یصلحهم ویفسدهم «2» وكذا الاخبار الدّالة علی انّه علی اللَّه بیان ما یصلح النّاس ومایفسدهم «3» ودلالة القسمین الاخیرین علی المطلوب انّما یتمّ إذا ثبت أنّ المفهوم منهما أنّ طریق العلم بهما منحصر فی ذلك.
وقد سبق منّا إشارة إلی بعض القسم الاخیر.

الثالث: الاجماع‌

نقله جماعة من فحول علمائنا كالصدوق فی اعتقاداته والمحقّق والعلّامة. كذا نقل بعض الاعلام وكلام الصّدوق لیس صریحاً فی دعوی الاجماع لانّه قال فی
______________________________
(1) راجع البحار 5/ 288 باب الاطفال و من لم یتمّ علیهم الحجّة فی الدّنیا
(2) راجع البحار جلد 23 باب الاضطرار إلی الحجّة
(3) التوحید 414- 411
جامعة الأصول، ص: 44
اعتقاداته: باب الحظر والاباحة. اعتقادنا فی ذلك انّ الاشیاء كلّها مطلقة حتی یرد فی شی‌ء منها نهی «1» وهذا كماتری لایدلّ صریحاً علی دعوی الاجماع لانّ بعضاً من الامور الّتی قال اعتقادنا فیه كذا وكذا مختلف فیه. فتأمّل.

الرّابع العقل‌

وهو عدّة دلائل.
منها: انا نعلم انّ الصحابة والتابعین فی عصر سیّد المرسلین صلّی اللَّه علیه وآله أجمعین وكذا اصحاب ائمّتنا الراشدین صلوات اللَّه علیهم اجمعین ما كانوا یتوقفون فی كلّ واحد من افعالهم الّتی لم یرد بها نصّ بل كان بناؤهم علی أصل الاباحة الّا فی الامور الّتی كان التحریم فیها منصوصاً من الشارع. وكذا ما كانوا متأمّلین فی حلیّة الاشیاء الّا الاشیاء الّتی كان تحریمها منصوصاً.
ولا یخفی انّ هذا الدلیل لا یفید شیئاً من الظنّ والعلم وذلك لّان المراد من افعالهم ان كان الامور الّتی لا یمكن انفكاكها عنهم عقلًا كالحركة والسكون والاكل والشّرب والنّوم والیقظة والاحتباس والاستفراغ وامثالها أو عادة كاللّبس والاستماع واللّمس والنظر إلی المبصرات واشباهها فاباحتها كانت معلومة عندهم من طریقة الشارع
______________________________
(1) الاعتقادات صفحه 107 الطبع الحجری 1292
جامعة الأصول، ص: 45
وسیرته، وان كان الامور الاخر فكان دأبهم السّؤال عنها والاستفسار عن حقیقتها وكیفیّة حالها وما كانوا یرتكبون امراً بدون إذن الشارع ورخصته الّا فیما كان الرّخصة وصلت الیهم خاصّاً أو عامّاً قولًا أو فعلًا أو تقریراً كما لا یخفی علی المطّلع علی الاخبار المتتبّع للآثار نعم یمكن ان یقال: نحن نعلم انّ كثیراً ما كان الصحابة والتابعون فی عصر النّبی والائمّة (علیهم السّلام) یرتكبون اموراً لاعتقادهم اباحتها ولم یؤاخذهم الشارع علی ذلك مع انّه إن لم یكن الأصل فی الافعال والاشیاء الاباحة كان الواجب علی الشارع ان یمنعهم من جمیع افعالهم وحركاتهم وسكناتهم بدون رخصته مع انّ الامر لم یكن كذلك فی عهده.
ومنها: ان الاباحة انسب بالملّة السمحة السّهلة بل عدم كون الأصل فی الافعال والاشیاء الاباحة مناف لكون هذه الملّة سهلة سمحة كما لا یخفی. وهذا الدّلیل لا یفید الّا الظنّ.
ثم هذان الدّلیلان مختصّان بما بعد البعثة.
ومنها: انّ العقل یحكم حكماً قطعیّاً بقبح الحكم والتكلیف مع عدم البیان لانّه تكلیف مالایطاق وهو محال علی اللَّه تعالی وأورد علیه بانّ هذا لایدفع ان یوجد فی الواقع ونفس الامر حكم وتكلیف. فالحقّ ان یقال: یحكم العقل حكماً جزمیّاً بقبح العقاب مع عدم البیان للزوم الظّلم علی اللَّه. فاللّازم من الدّلیل اباحة الاشیاء والافعال بمعنی عدم العذاب والعقاب علی الترك قبل النّص والبیان، لاعدم الحكم
جامعة الأصول، ص: 46
فی الواقع ونفس الامر مطلقاً لانّ هذا لیس علی مذهبنا صحیحاً لانّ اعتقادنا انّ النبیّ (صلّی اللَّه علیه و آله) أودع جمیع الشّرائع والاحكام وكلّ ما یتعلّق بالحلال والحرام عند اهل بیته الكرام علیهم صلوات اللَّه الملك العلامّ بحیث لم یشذّ عنه شی‌ء حتّی ارش الخدش واقلّ ولكنّهم (علیهم السّلام) ما تمكّنوا من إظهار الجمیع لخوف التقیّة ولظهور الفتنة وغیر ذلك. مع انّ الاحكام الّتی اظهروها لم یصل كلّها الینا لظهور الفساد والفتنة بعدهم (علیهم السّلام) واعتراء الاختلال والاندراس فی الكتب الاربعمائة. فیحنئذٍ لا یمكن لنا القول بالعدم الواقعی نعم هذا یمكن القول به علی طریقة العامّة حیث یقولون إنّ النبی (صلّی اللَّه علیه و آله) اظهر كلّ ما جاء به وتوفّر الّدواعی علی اخذه ونشره بحیث لم یشذّ منه شی‌ء فحینئذ إذا تتبّعنا ولم نجد الحكم، نحكم بعدم الحكم فی الواقع ونفس الامر.
إذا عرفت هذا فاعلم أنّ كثیراً من الاصحاب استدلّ بالایات والاخبار المذكورة علی أنّ الوجوب والحرمة الشرعیّین موقوفان علی النّص من قبل الشریعة لایمكن للعقل اثباتهما نعم یمكن ادراك الوجوب والحرمة العقلیین بالعقل والواجب العقلی ما یستحقّ فاعله المدح وتاركه الذّم، والشّرعی ما یستحقّ فاعله الثواب وتاركه العقاب، والحرام العقلی ما یستحقّ فاعله الذمّ وتاركه المدح، والحرام الشرعی ما یستحقّ فاعله العقاب وتاركه الثّواب
جامعة الأصول، ص: 47
وامكان ادراك العقل الوجوب والحرمة العقلیّین مبنی علی ماهو التحقیق عندنا من كون الحسن والقبح عقلیّین- وتحقیق القول فیه یلیق بموضع- آخر فیمكنه ان یحكم بانّ بعض الافعال واجب فی الواقع بالمعنی المذكور كوجوب قضاء الدین وردّ الودیعة وبعضها حرام كازهاق النّفس ظلماً، بل یمكنه ادراك المستحبّ العقلی ایضاً كاستحباب الاحسان وقد ذكر ذلك جمع من علمائنا منهم المحقّق فی «المعتبر» «1» والشهید فی «الذكری» «2» مع انّ الظاهر انّه بدیهیّ لا یحتاج إلی التأمّل ولكن قالوا: لایمكن اثبات الوجوب والحرمة الشرعیّین بالعقل وستعرف إن شاء اللَّه ما هو الحقّ فی المسألة.
انّهم استدلّوا علی مطلبهم بما عرفت من الآیات والاخبار والادلّة الأُخر وبصحیحة زرارة عن أبی‌جعفر (علیه السّلام) قال: بنی‌الاسلام علی خمسة اشیاء- إلی ان قال- اما لو انّ رجلًا قام لیله وصام نهاره وتصدّق بجمیع ماله وحجّ جمیع دهره ولم یعرف ولایة ولی اللَّه فیوالیه ویكون جمیع اعماله بدلالته إلیه ما كان له علی اللَّه حقّ فی ثوابه ولاكان من أهل الایمان «3»- الحدیث-
______________________________
(1) المعتبر صفحه 106 الطبع الحجری
(2) الذكری صفحه 5. الطبع الحجری و 1/ 52 الطبع الحدیث
(3) الكافی 2/ 19. الوسائل 1/ 5 و 90 نقلًا عن الكافی و المحاسن
جامعة الأصول، ص: 48
وبأنّه یبعد كون احكام اللَّه بمجرّد العقول مع تباینها وشدّة اختلافها ولذا تری لم یوافق العقلان فی مسألة من المسائل العقلیّه.
ولما ذكره اصحابنا والمعتزلة من انّ التكلیف فیما یستقل به العقل لطف والعقاب بدون اللطف قبیح علی اللَّه فقبل البیان لا یكون من اللَّه عذاب وعقاب.
ولأنّ العقل لو كان مستقلًا فی ادراك الوجوب والحرمة الشرعییّن لم یكن لطلب الشارع ونهیه فائدة اصلًا، مع انّا نعلم قطعاً انّ لكلّ من الطّلب والنّهی فائدة لم یكن قبل ورودهما.
قال حجّة الفرقة المحقّة نصیر الملّة والدّین الطوسی قدّس اللَّه نفسه الزكیّة فی بعض كتبه: انّ القبیح العقلی ما ینفر الحكیم عنه وینسب فاعله إلی السّفه «1».
وقال بعض المتأخرین من اصحابنا:
لایقال قوله (علیه السّلام): كلّ شی‌ء مطلق حتّی یرد فیه نهی «2» یبطل الحسن والقبح الذاتیین لانّا نقول هاهنا مسألتان:
الاولی الحسن والقبح الذاتیان والاخری الوجوب والحرمة الذاتیان
______________________________
(1) الفوائد المدنیّة 161
(2) الفقیه 1/ 317
جامعة الأصول، ص: 49
والذی یلزم من ذلك، بطلان الثانیة لا الاولی، وبینهما بون بعید. الا تری انّ كثیراً من القبائح العقلیّة لیس بحرام فی الشریعة ونقیضه لیس بواجب- انتهی كلامه الشریف- «1».
وقال سیّدنا الاجلّ المرتضی رضی اللَّه عنه فی «الذّریعة» فی مقام الاستدلال علی انّ الاشیاء التی لم یرد بها نصّ مباحة- بعد ان ادّعی انّه لیس علیها المضرّة العاجلة-: وامّا المضرّة الاجلة فهی العقاب وانّما یعلم انتفاء ذلك لفقد السمع الّذی یجب ان یرد به لو كان ثابتاً لانّ اللَّه تعالی لابدّ ان یعلمنا ما علینا من المضارّ الآجلة الّتی هی العقاب الذی یقتضیه قبح العقل وإذا فقدنا هذا الاعلام قطعنا علی انتفاء المضرّة الآجلة ایضاً- انتهی عباراته الشریفة- «2».
ثمّ انّ بعض الفضلاء المتأخرین تردّد فی المسألة وبعد الاستدلال علی ما ذكرنا من المذهب الحقّ اعنی عدم استقلال العقل بادراك الوجوب والحرمة الشرعییّن قال:
فإن قلت: فإذا كان الامر علی ما ذكرت فلم لم تحكم بعدم حجیّة هذه الطریقة علی البتّ، بل جعلت حجیّتها محلّ التأمّل المشعر بالشكّ والتردّد.
قلت: وجه التردّد ممّا مرّ ومن أنّ اخباره تعالی بنفی التعذیب فیما هو مذموم ومكروه عنده اغراء منه تعالی للمكلّف علی هذا المذموم وهو
______________________________
(1) الفوائد المدنیّة 161
(2) الذریعة 811 طبع طهران
جامعة الأصول، ص: 50
قبیح ونقض للغرض وحینئذٍ لا یكون ما یندرج فی هذه الطریقة مندرجاً فی قوله تعالی وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِینَ حَتَّی نَبْعَثَ رَسُولًا «1» وحینئذٍ فیبقی الكلام فی صحّة الملازمة المذكورة وعدمها- انتهی- «2».
وغرضه من الملازمة المذكورة الملازمة بین الوجوب والحرمة العقلییّن والشّرعییّن یعنی كلّما وجد العقلیّان یوجد الشرعیّان أم لا.
ثمّ انّ هذا البعض المتقدّم ذكره أورد علی المسألة بقوله:
فان قلت: الواجب العقلی هو مایكون تاركه مذموماً عند كلّ عاقل وحكیم والحرام العقلی ما یكون فاعله مذموماً كذلك فالحرام العقلی مثلًا لابدّ وان یكون مكروهاً وممقوتاً للَّه تعالی ولیس الحرام الشرعی الّا ذلك لانّ فاعل فعل هو مكروه عنداللَّه تعالی ممقوت له تعالی مستحقّ لعقابه ضرورة.
واجاب بأنّ الحرام الشرعی ما یجوز المكلّف العقاب علیه ولا یكفی مجرّد الاستحقاق وان علم انتفاؤه بسبب ما كأخباره بذلك ثمّ قال: وایضاً بداهة استلزام المكروهیّة عند اللَّه تعالی استحقاق عقابه محلّ نظر ومنع- انتهی- «3».
وتوضیح كلامه: انّك قد عرفت بامكان ادراك العقل الوجوب
______________________________
(1) الاسراء: 15
(2) الوافیة للفاضل التونی ص 174
(3) الوافیة ص 175
جامعة الأصول، ص: 51
والحرمة العقلییّن، وقلت: المكلّف إذا ادركهما ومع ذلك ترك الواجب المذكور وفعل الحرام المزبور لا یكون علیه عقاب، ولاشكّ انّ الحرام العقلی مكروه عنداللَّه ایضاً لأنّه ما یكون مكروهاً عند كلّ عاقل وحكیم، وترك الواجب العقلی ایضاً كذلك بعینه. وحینئذٍ كیف لا یكون علی فعل هذا الحرام وترك هذا الواجب عقاب بعد ان ادركهما العقل وعلم جهة حسنهما وقبحهما؟ وكیف یخبراللَّه تعالی بأنّ الامر الّذی هو مكروه عندی وانت عرفت بعقلك انّه مكروه عند كلّ عاقل وحكیم لا اعذّبك بفعله؟ وكذا كیف یخبر بأنّ الامر الّذی هو حسن عندی وانت عرفت ایضاً ذلك لا اعذّبك [بتركه]؟ فهذا اغراء منه تعالی للمكلّف إلی الامر القبیح المذموم وهو غیر صحیح.
فحینئذٍ یبقی الكلام فی انّه هل یمكن أن یكون فعل مكروها عند اللَّه تعالی ومع ذلك یكون «1» فاعله عنده غیر مستحق للعقاب أولا یمكن فعلی الاول یكون القول بعدم اثبات الوجوب والحرمة الشرعیّین بالعقل صحیحاً وعلی الثانی لایكون صحیحاً لانّ ما یدركه العقل حینئذٍ بانّه مذموم یكون علی فعله العقاب وحینئذٍ یجب ان یخصّص الایة وغیرها بما لایدرك العقل وجوبه أو حرمته.
اقول: تحقیق المقام ان یقال: انّ الامور ینقسم إلی قسمین:
______________________________
(1) فی الاصل: لا یكون.
جامعة الأصول، ص: 52
قسم لا یدرك العقل حسنه وقبحه مطلقاً وهذا كثیر بحیث لا تعدّ ولاتحصی ولاشكّ انّ هذا القسم موقوف علی نصّ الشارع ومادام لم یرد بها نصّ یكون علی أصل الاباحة ولایكون علی فعلها عقاب وكذا علی تركها لأنّ المفروض انّ العقل غیر متمكّن من ادراكها.
وقسم یدرك العقل حسنه وقبحه وهذا هو المتنازع فیه بین العقلاء بحیث صار محطّاً لرحال العلماء والاعلام وغرضاً لسهام النّقض والابرام فبعضهم یقول: انّ حسنها وقبحها ثابت بالعقل ولكن الثواب والعقاب موقوفان علی نصّ من الشّارع فإن ورد نصّ من الشارع علی فعلها أو تركها یثبت الثواب والعقاب ایضاً والّا فلا فهؤلاء یقولون لا ملازمة بین الوجوب والحرمة العقلیّین والوجوب والحرمة الشرعیّین فربّما وجد الاوّل ولم یوجد الثانی وبالعكس وعرفت دلالة كلام المحقّق الطوسی (قدّس سرّه) علیه حیث قال: الا تری انّ كثیراً من القبائح العقلیّة لیس بحرام فی الشریعة ونقیضه لیس بواجب «1»، وكلام السیّد المرتضی (قدّس سرّه) «2» ایضاً ینظر إلی هذا، واختاره جمع آخر ایضاً قال شارح جمع الجوامع «3»: «وتوسّط قوم فقالوا: قبحها ثابت بالعقل،
______________________________
(1) راجع ص 48 ولیس هذا من كلام المحقّق الطوسی بل من صاحب الفوائد المدنیّة فراجع
(2) راجع ص 48 ولیس هذا من كلام المحقّق الطوسی بل من صاحب الفوائد المدنیّة فراجع
(3) قال فی كشف الظنون: جمع الجوامع فی اصول الفقه لتاج الدین عبدالوهاب السبكی الشافعی المتوفّی 771 وله شروح كثیرة ... و من شروحه شرح بدرالدین محمّد الزركشی المتوفی 749
جامعة الأصول، ص: 53
والعقاب یتوقّف علی الشرع، وهو الّذی ذكره اسعد بن علی الزنجانی من اصحابنا وأبوالخطّاب من الحنابلة وذكره الحنفیّة وحكوه عن أبی حنیفة نصّاً وهو المنصور لقوته من حیث الفطرة وآیات القرآن المجید وسلامته عن الوهن والتناقض.
فهاهنا امران:
الاوّل ادراك العقل حسن الاشیاء وقبحها.
والثانی ان ذلك كاف فی الثواب والعقاب وان لم یرد شرع، ولا ملازمة بین الامرین، بدلیل ذلك ان لم یكن رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُری بِظُلْمٍ- ای بقبح فعلهم- وَ أَهْلُها غافِلُونَ «1» ای لم یأتهم الرّسل والشرائع. ومثله لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَیْنا رَسُولًا «2»- انتهی [كلام الفاضل الزركشی]- «3».
واستدلال القائلین بعدم الملازمة هو اطلاقات الآیات والاخبار المذكورة فإنّها بإطلاقها تدلّ علی انّ مالم یرد به الشّرع سواء ادرك العقل حسنه وقبحه‌ام لا لا یكون علیه عقاب.
______________________________
(1) الانعام: 131
(2) طه: 134
(3) هذه العبارة منقولة عن الفوائد المدنیّة ص 162 نقلًا عن شرح جمع الجوامع لبدر الدین الزركشی.
جامعة الأصول، ص: 54
ویرد علی هذا المذهب امور:
منها: الاغراء للمكلّف علی القبیح المذموم كما تقدّم.
ومنها: انّ العقل من الادلّة الشرعیّة ایضاً وعلی هذا المذهب یلزم خلعه بالمرّة فی الاحكام الشرعیّة، لانّ الامور التی لم یرد بها نصّ لا یمكن للعقل اثبات الوجوب والحرمة لها، والّتی ورد بها نصّ لا یحتاج إلی العقل.
ومنها: انّه ورد انّ العقل والشرع متلازمان لایمكن انفكاك أحدهما عن الاخر فإنّ العقل الشرع الباطن، كما انّ الشرع العقل الظاهر، وقد ورد عن سیّد المتّقین وامیرالمؤمنین صلوات اللَّه علیه وعلی أولاده الطّاهرین:
«رایت العقل عقلین: مطبوع ومسموع ولاینفع مسموع إذا لم یك مطبوع كما لاینفع الشمس وضوء العین ممنوع» «1».
ومنها: انّه لاشبهة فی انّ ما هو مقتضی العقل الصّحیح صحیح وخلافه مذموم قبیح فكیف یمكن ان یتحقّق فی موضع ما هو مقتضی العقل الصّحیح واثبت الشارع الّذی هو اعقل العقلاء خلافه؟ نعم ان ظنّ فی موضع هذا فی بادی‌ء النظر یحكم جزماً بأنّ هذا العقل لیس بصحیح، لا اّن الشارع قال خلافه.
______________________________
(1) راجع الاصول الاصیلة للفیض (قدّس سرّه) ص 120 و ذیله.
جامعة الأصول، ص: 55
ولما ذكرنا ذهب قوم إلی انّ بین العقل والشرع تلازماً لایمكن ان ینفكّ أحدهما عن الاخر فإذا حكم العقل الصحیح بانّ هذا حسن أو قیبح یجزم من هذا بأنّ حكم الشّرع ایضاً كذلك، فحكم العقل كاشف عن حكم الشرع وهو تابع للعقل والمعتزلة ایضاً هكذا تقولون.
قال شارح جمع الجوامع: انّ المعتزلة لا ینكرون انّ اللَّه تعالی هو الشّارع للاحكام، انّما یقولون انّ العقل یدرك انّ اللَّه تعالی شرع احكام الافعال بحسب ما یظهر من مصالحها ومفاسدها فهما عندهم مؤدّیان إلی العلم بالحكم الشّرعی تابع لهما لا عینهما فما كان حسناً جوّزه الشّارع وماكان قبیحاً منعه. فصار عند المعتزلة حكمان احدهما عقلی والاخر شرعی تابع له. فبان انّهم لایقولون انّه بمعنی العقاب والثواب لیس بشرعیّ اصلًا خلافاً لما یوهمه ظاهر عبارة المصنّف وغیره- انتهی كلامه- «1».
ویرد علی هذا القول شیئان ولكن جوابهما معلوم.
الاوّل انّا نری انّ كثیراً من المحسّنات العقلیّة صارت محرّمة فی الشرع وكثیراً من القبائح العقلیّة أوجبها الشارع فكیف یدعی التلازم بینهما؟
وجوابه ظاهر لانّا لانسلّم انّ الشارع حرّم المحسنّات العقلیّة أو أوجب القبائح العقلیّة بل انّ ظنّ ذلك فی بادی‌ء النظر فانّما هو ناش‌ء عن العقول القاصرة والفهوم العاجزة البائرة فإنّ كلّ عقل لیس بصحیح وكلّ درك لیس بمستقیم بل الموافق للعقل السلّیم والموافق للفهم المستقیم ما قال به
______________________________
(1) الفوائد المدنیّة 164 نقلًا عن شرح جمع الجوامع للزركشی
جامعة الأصول، ص: 56
الشارع، ولذا ان تأمّل من علی الفطرة السلیمة فی الاحكام الشّرعیّة وتتبّع من كان متّصفاً بجودة التعقّل والفهم فی المسائل الفرعیّة یجد أنّ جمیعها مقتضی العقل نقل ان فاضلًا من ارباب العقول الّذی صرف عمره جمیعاً فی العلوم العقلیّة ولم یحصّل شیئاً من العلوم النقلیّة ولم تقرع علی سمعه مسألة من المسائل الفقهیّة- وسمعت انّه الفاضل الخفری «1»- دخل فی بلد وشرع فیه بالافتاء من غیر رجوع إلی الكتب الفقهیّة بل بمجرّد العقل حتی مضی من ذلك مدّة طویلة فدخل فیها فقیه فاضل- وسمعت أورایت فی موضع انّه المحقّق الثانی رحمه اللَّه «2»- فزجره عن ذلك وامر بجمع فتاویه حتی یری كیف فعل فلمّا جمع فتاویه فرأی الشیخ المحقّق (قدّس سرّه) انّ كلامه فی جمیع المسائل المذكورة موافق لما هو مفتی به الّا مسائل نادرة قلیلة وهذا النقل مؤیّد لما قلنا.
الثانی انّ هذا القول مخالف لما یفهم من اطلاقات الآیات والاخبار كما تقدّم.
ویمكن الجواب عن ذلك بوجوه:
الاوّل تخصیصها بالمواضع الّتی لم یحكم العقل فیها بالحكم الجزمی ولایتمكّن من ادراكه لما ذكرنا من الادلّة.
______________________________
(1) صاحب الحاشیة علی شرح التجرید المتوفی 932
(2) صاحب جامع المقاصد المتوفی 940
جامعة الأصول، ص: 57
الثانی تخصیصها بما قبل البعثة.
وفیه مافیه لانّك عرفت انّ بعضها لایمكن حمله علی ما قبل البعثة مع انّ ما یمكن ان یقال به بعد البعثة یمكن أن یقال به قبلها ایضاً فالفرق بینها تحكّم ظاهر مع انّ التفرقة لا تعقل لانّ الظاهر انّ المراد بقبل البعثة قبل بعثة مطلق الانبیاء ولاشكّ انّ آدم (علیه السّلام) كان قبل كلّ أحد وقبله لم یكن أحد فكلّ زمان صدق علیه انّه بعد البعثة ولایتحقّق زمان قبل البعثة. فتأمّل.
الثالث حمل الآیات والاخبار علی العفو بأن یقال یجوز ان یستحقّ العذاب والعقاب الّا انّه تعالی بناء علی لطفه ورحتمه لا یعذّبه الّا بعد البیان كما صرّح به الفاضل المحقّق الخوانساری فی حواشیه علی شرح المختصر للعضدی «1».
وأجیب عن هذا بأنّ الحرام الشّرعی ما یجوز المكلّف العقاب علی فعله والواجب الشّرعی ما یجوز العذاب علی تركه وهذا التجویز هنا محال لاخبار اللَّه تعالی بعدم العذاب والعقاب.
ولایخفی ما فی هذا الجواب.
الرابع انّ حكم العقل بالحسن والقبح كاشف عن الوجوب والحرمة كما عرفت لتلازمهما فكلّ موضع حكم العقل حكماً جزمیّاً بالحسن والقبح یحصل الجزم بالحكم الشرعی ایضاً ولایصدق انّه حینئذٍ من باب مالا نصّ فیه أو باب المطلق بل یكون ممّا ورد حكمه من الشارع. فتأمّل.
______________________________
(1) مخطوط
جامعة الأصول، ص: 58
إذا عرفت هذا فتعلم انّ الترجیح لهذا المذهب وان كان مخالفاً لما علیه الفحول ومبائناً لما قبله اقویاء العقول.
ثمّ انّ بناء علی المذهب الاوّل یكون الأصل فی كلّ ما لم یرد به الشّرع الاباحة، وبناء علی المذهب الثانی یكون الأصل فی كلّ ما لم یرد به الشرع ولایحكم به العقل ایضاً الاباحة.
ثمّ حكم العقل إمّا علی سبیل القطع أو الجزم أو علی سبیل الظنّ.
فالاوّل لاكلام فیه.
وامّا الثانی فیبنی الامر علی انّ الظنون كافیة فی الاحكام الشرعیّة أم لا. فعلی ما ذهب إلیه المجتهدون إذا حكم العقل بالحسن والقبح علی سبیل الظنّ یحصل (العلم بالحكم الشرعی ایضاً علی سبیل الظنّ) «1» فیكون هذا الظنّ كافیاً فی اثبات هذا الحكم الشّرعی وعلی مذهب الاخباریّین لا یكون كافیاً مع انّهم ینكرون أصل الاباحة مطلقاً

[حجّة القائلین بالتوقّف]

اشارة

وبناء علی التوقّف حجّة القائلین بالتوقّف‌

اخبار كثیرة:

اشارة

منها: ما روی عمر بن حنظله عن الصّادق (علیه السّلام) قال: قال رسول اللَّه (صلّی اللَّه علیه و آله): «حلال بیّن وحرام بیّن وشبهات بین ذلك فمن ترك الشّبهات
______________________________
(1) فی بعض النسخ «الظنّ بالحكم الشرعی» مكان ما بین ()
جامعة الأصول، ص: 59
نجا من المحرّمات ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرّمات وهلك من حیث لایعلم» «1». وقال (علیه السّلام) فی اخره بعد بیان جمیع وجوه التراجیح فی الخبرین المختلفین: «فإذا كان كذلك فارجه حتّی تلقی امامك فإنّ الوقوف عند الشّبهات خیر من الاقتحام فی الهلكات» «2».
ومنها: ما روی الرّاوندی عن الصّدوق (قدّس سرّه) قال: اخبرنا أبی قال اخبرنا سعد بن عبداللَّه عن یعقوب بن یزید عن محمّد بن أبی عمیر عن جمیل بن درّاج عن أبی عبداللَّه (علیه السّلام) قال: «الوقوف عند الشبهة خیر من الاقتحام فی الهلكة انّ علی كلّ حقّ حقیقة وعلی كلّ صواب نوراً فما وافق كتاب اللَّه فخذوه وما خالف كتاب اللَّه فدعوه» «3».
ومنها: ما ورد عنهم (علیهم السّلام) «انّما الامور ثلاثة امر بیّن رشده فیتّبع وامر بیّن غیّه، فیجتنب وامر مشكل یردّ علمه إلی اللَّه تعالی ورسوله» «4» ووجه استدلالهم بهذه الاخبار الثلاثة انّ ما لانصّ فیه من افراد الشّبهة والمشكل فیجب فیه الوقوف وردّ علمه إلی اللَّه تعالی ورسوله.
______________________________
(1) الكافی 1/ 68. الوسائل 18/ 76 طبع الاسلامیّة
(2) الكافی 1/ 68. الوسائل 18/ 76
(3) الوسائل 18/ 86 نقلًا عن رسالة للراوندی
(4) الكافی 1/ 67
جامعة الأصول، ص: 60
ومنها: ما روی فی «الكافی» فی باب النّهی عن القول بغیر علم عن أبی عبداللَّه (علیه السّلام) قال: «انهاك عن خصلتین فیهما هلك الرّجال انهاك أن تدین اللَّه بالباطل وتفتی النّاس بمالاتعلم» «1».
ومنها: روایة زرارة عن أبی جعفر (علیه السّلام) قال: سألته ما حقّ اللَّه علی العباد؟ قال: «ان یقولوا ما لایعلمون ویقفوا عند ما لایعلمون» «2».
ومنها: ما روی فی الكافی عن الصادق (علیه السّلام) قال: «من فرّط تفرّط و من خاف العاقبة تثبت عن التوغّل فی ما لا یعلم و من هجم علی امر بغیر علم جذع انف نفسه» «3».
ومنها: قول سیّدنا امیرالمؤمنین صلوات اللَّه علیه فی «نهج البلاغة» فی وصیّته لابنه الحسن صلوات اللَّه علیه: «ودع القول فیما لا تعلم والخطاب فیها لا تكلّف وامسك طریق إذا خفت الضّلالة فإنّ الكفّ عند حیرة الضلالة خیر من ركوب الاهوال» «4».
ومنها: ما روی عن الباقر صلوات اللَّه علیه قال: «من افتی النّاس برأیه فقد دان اللَّه بمالایعلم ومن دان اللَّه بما یعلم فقد صادّ اللَّه
______________________________
(1) الكافی 1/ 42
(2) الكافی 1/ 43
(3) الكافی 1/ 27
(4) الوسائل 27/ 160 نقلًا عن نهج البلاغة 3/ 44 طبع مصر. شرح نهج البلاغة لابن میثم 5/ 7
جامعة الأصول، ص: 61
حیث احلّ وحرّم فیما لا یعلم» «1».
ومنها: قولهم (علیهم السّلام): انّ اللَّه خصّ عباده بآیتین من كتابه ان لا یقولوا حتّی یعلموا ولایردّ واما لایعلمون قال عزّوجلّ أَ لَمْ یُؤْخَذْ عَلَیْهِمْ مِیثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا یَقُولُوا عَلَی اللَّهِ إِلَّا الْحَقَ «2» وقال «3» بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ یُحِیطُوا بِعِلْمِهِ وَ لَمَّا یَأْتِهِمْ تَأْوِیلُهُ «4».
ومنها: قوله علیه الصّلاة والسّلام: لایسعكم فیما ینزل بكم مّما لاتعلمون الّا الكفّ عنه والتثبّت والردّ إلی ائمّة الهدی حیث یحملوكم فیه علی القصد ویجلوا عنكم فیه العمی ویعرفوكم فیه الحقّ قال اللَّه تعالی: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ «5»*.
ومنها: قوله (علیه السّلام): «لا یسع النّاس حتی یسألوا و یتفقّهوا ویعرفوا امامهم ویسعهم ان یأخذوا بما یقول وان كان تقیّة» «6».
ومنها: روایة سماعة عنه (علیه السّلام) حیث سأله (علیه السّلام) وقال: «انّا نجتمع
______________________________
(1) الكافی 1/ 58 وفیه «ضادّ»
(2) الاعراف: 169
(3) یونس: 40
(4) الكافی 1/ 43
(5) الكافی 1/ 50 المحاسن 216/ 106 الوسائل 27/ 155 والآیة فی سورة النحل: 43 و الأنبیاء: 7
(6) الكافی 1/ 40
جامعة الأصول، ص: 62
فنتذاكر ما عندنا- إلی ان قال- فنقیس علی (إلی خ) احسنه فقال: مالكم والقیاس انّما هلك من هلك من قبلكم من القیاس ثمّ قال إذا جاءكم ماتعلمون فقولوا به وإن جاءكم ما لا تعلمون- فها واهوی بیده إلی فیه- ...» «1».
ومنها: قوله (علیه السّلام): «من نصب نفسه للقیاس لم یزل دهره فی التباس ومن دان اللَّه بالرأی لم یزل دهره فی ارتماس» «2».
والاخبار الواردة بهذا المضمون اعنی النّهی عن القول بغیر علم كثیرة غایة الكثرة.
والآیات ایضاً كثیرة بهذا المضمون كقوله سبحانه: وَ لا تَقْفُ ما لَیْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ «3».
وقوله عزّوجلّ: وَ لا تَقُولُوا عَلَی اللَّهِ إِلَّا الْحَقَ «4».
ووجه الاستدلال بهذه الاخبار انّها تدلّ علی انّ ما لم یأت علمه من اللَّه ورسوله فیجب فیه التوقّف وعدم القول وما لا نصّ فیه كذلك فیجب عنده التوقّف والتثبّت ومنها الاخبار الكثیرة المستفیضة الواردة بانّ للَّه تعالی فی كلّ واقعة
______________________________
(1) الكافی 1/ 57
(2) الكافی 1/ 58
(3) الاسراء: 36
(4) النساء: 171
جامعة الأصول، ص: 63
حكماً مخزوناً عند اهله حتی فی ارش الخدش ونصف الجلدة والجلدة «1».
وحینئذٍ فكلّ حكم من الاحكام وكلّ امر من الامور قد ورد فیه خطاب من جانب الشریعة وهو مخزون عند ائمّتنا الرّاشدین صلوات اللَّه علیهم اجمعین وعدم اظهارهم للتقیّة وظهور الفتنة ولذا فی بعض الاوقات كانوا یجیبون كما هو علیه فی الواقع وفی بعضها یجیبون علی نحو تقتضیه التقیّة وفی بعضها لا یجیبون مطلقاً كلّ ذلك كان بحسب ما یقتضیه الوقت والمصلحة فإذا ورد فی كلّ حكم خطاب شرعیّ فكیف یمكن الحكم بأصل البراءة والاباحة.
ومجمل القول انّ استدلالهم منحصر فی اخبار حاصرة بین اقسام ثلاثة:
القسم الاوّل: الاخبار الدّالة علی التثلیث ووجه استدلالهم بها أنّ القول بالبراءة والاباحة ینفی التثلیث ویتعیّن القول بالتثنیة لانّ الاحكام حینئذٍ تنحصر فی الحلال والحرام ولایبقی للثالث فرد حتّی یدخل فیه.
القسم الثانی: الاخبار الدّالة علی النّهی عن القول بغیر علم وردّ مالایعلم إلی اهله
______________________________
(1) الكافی 1/ 59
جامعة الأصول، ص: 64
ووجه استدلالهم بها انّ ما نحن فیه من قبیل ما لایعلم فیجب ردّه إلی اهله.
القسم الثالث: الاخبار الواردة بأنّ للَّه تعالی فی كلّ واقعة حكماً مودعاً إلی اهله ووجه استدلالهم بها انّ هذا الاخبار تدلّ علی انّ لهذا الامر حكماً شرعیّاً عند اهله والقول بالاباحة منافٍ لهذا هذه هی جملة الاخبار الّتی استدلّوا بها القائلون بالتوقّف.

ویمكن الجواب بوجوه:

الاوّل: انّ اخبارنا موافقة للقرآن وهذه الاخبار غیر موافقة له، وورد فی الاخبار الكثیرة انّ الاخبار إذا تعارضت یجب الاخذ بما یوفق القرآن فیتعیّن الاخذ بالاخبار الدّالة علی الاباحة.
لایقال: الاخبار الدّالة علی التوقّف اكثر عدداً واصحّ سنداً.
لانّا نقول: القسم الثانی لا یدلّ علی مطلوبهم مطلقاً لانّ القول بالاباحة لیس قولًا بغیر علم بعد دلالة الآیات والاخبار الكثیرة علیه. وكذا القسم الثالث لانّا قائلون بمضمونه ومعترفون بأنّ لكلّ واقعة حكماً خاصّاً مخزوناً عند اهله ولانقول بعدم الحكم فی الواقع بل غرضنا من الاباحة والبراءة عدم تعلّق التكلیف بنا وبراءة ذمّتنا منه لأنّ التكلیف لایكون الّا بعد
جامعة الأصول، ص: 65
الارشاد والبیان كما یدلّ علیه العقل فلایبقی حینئذٍ الّا الاخبار الدّالة علی التثلیث اعنی القسم الاوّل وهو- مع انّه لا یقاوم الاخبار الدّالة علی البراءة- مخالفة للقرآن والادلّة العقلیّة، مع انّك ستعرف ما فی هذا القسم ایضاً لایقال: الایراد علی القسم الثانی من الاخبار لیس بصحیح لانّ دلالة الآیات والاخبار علی أصل البراءة والاباحة واثباته بها حتی لایكون القول به قولًا بغیر علم موقوف علی ان لایكون لها معارض اقوی منها مع انّها فی اوّل الامر معارضة بالاقسام الثلاثة من الاخبار المستفیضة ولایمكن معارضتها لهذه الاخبار المتواترة لحصول العلم منها بمضمونها بخلافها.
لانّا نجیب عن ذلك بالنقض والحلّ.
وامّا النقض فلانّ هذا ان كان وارداً علی ما نحن فیه یرد علی كلّ الاحكام حتّی علی القول بالتثلیث أیضاً بأن یقال: الاخبار الدّاله علی النّهی عن القول بغیر علم مستفیضة بل متواترة وهی معارضه للاخبار الّدالّة علی التّثلیث وهی اقوی من اخبار التثلیث لاستفاضتها وتواترها وتقویتها بعمل الطّائفة فلا یقاومها اخبار التّثلیث. وهكذا یمكن اجراؤه فی جمیع الاحكام الّا فی حكم ورد فیه اخبار اقوی منها وهو قلیل.
وامّا الحلّ فلانّ العلم فی الاخبار المذكورة بمعناه الاعمّ اعنی الرّاجح سواء كان اعتقاداً جازماً أو ظنّاً لانّه ان لم یكن شاملًا للظنّ یلزم تعطیل احكام اللَّه تعالی وانسداد باب المسائل الشّرعیّة لانّ حصول العلم فی الاحكام الشّرعیّة أمر غیر ممكن الّا فی نادر غایة النّدرة ولهذا وقع
جامعة الأصول، ص: 66
الاجماع علی اعتبار ظنّ المجتهد فحینئذٍ نقول: حصل القطع من الاخبار المذكورة بأنّه لابدّ من حصول العلم فی الاحكام الشّرعیّة فیجب فی كلّ حكم من احكام اللَّه حصول العلم، فإن كان هذا العلم بمعناه الاخصّ فیجب فی كلّ حكم ان یحصل القطع بانّ هذا حكم اللَّه وهذا امر غیر ممكن فیتعیّن حمله علی مایشمل الظنّ ایضاً فكلّ موضع حصل الجزم بحصول الظنّ یكون كافیاً وهو المطلوب. هذا مع انّ ما نحن فیه ممّا یحصل فیه القطع لورود الآیات والاخبار الكثیرة ومعاضدتهما بالعقل والاجماع والاعتبارات الاخر كما عرفت.
فإن قلت الاخبار الدّالة علی أصل الاباحة موافقة لمذهب المخالفین لانّهم یقولون بالتثنیة فی احكام اللَّه ولیسوا قائلین بالتّثلیث فیمكن حملها علی انّها خارجة مخرج التقیّة فیبقی الاخبار الدّالّة علی التوقّف سالمة عن المعارض.
ففیه ان سلّم موافقتها لمذهب العامّة نقول: فی مقام التراجیح الا وفقیه بكلام اللَّه العزیز مقدّم علی المخالفة لمذهب العامّة كما هو غیر خفی علی المطّلع بالاخبار الواردة للتراجیح. هذا مع انّه ان قطع النّظر من الاخبار المذكورة تبقی الآیات و الادلّة العقلیّة والاجماع و هی ممّا یمكن تقاومها مع الاخبار المذكورة الدّالة علی التوقّف بل الترجیح لها كما لایخفی.
الثانی: ما اجاب به بعض الفضلاء وهو انّ المحرّم ما یجب اجتنابه وهذه الاخبار كالصّریحة فی انّ الشبهة لیست من المحرّمات فلا یكون
جامعة الأصول، ص: 67
اجتنابها واجباً بل لمّا كانت ممّا ینجر ویفضی إلی ارتكاب المحرّمات یكون اجتنابها مستحبّاً و ارتكابها مكروهاً ولهذا وقع طلب ترك ارتكاب الشبهة فی هذه الرّوایات بطریق النّصیحة والموعظة لا بطریق النّهی الظاهر فی الالزام. انتهی «1».
وهو جواب صحیح.
ویدلّ علیه ما روی فی كتاب «الكفایة فی النّصوص» تصنیف علی بن خزّاز بسنده عن الحسن بن علی (علیهما السّلام) انّه قال له (علیه السّلام): «واعلم انّك لا تكسب من المال شیئاً فوق قوتك الّا كنت فیه خازناً لغیرك اعلم انّ فی حلالها- ای الدّنیا- حساب وفی حرامها عقاب وفی الشبهات عتاب فانزل الدّنیا بمنزلة المیتة خذمنها ما یغنیك «2» فإن كان ذلك حلالًا كنت قد زهدت فیها وان كان حراماً لم تكن [فیه وزر فاخذت كما] قد اخذت من المیتة وان كان العتاب فإنّ العتاب یسیر «3».
فهذا الخبر صریح فی انّ اجتناب الشبهة لیس بواجب بل هو مستحبّ لئلّا یودّی إلی المحرّم فإن عدم المبالاة بالقلیل ینجرّ إلی عدمها بالكثیر كما لایخفی.
______________________________
(1) وافیة الاصول 191
(2) فی البحار: یكفیك
(3) البحار 44/ 139 نقلًا عن الكفایة.
جامعة الأصول، ص: 68
لا یقال: هذا الخبر لایمكن الاعتماد علیه لانّ الكتاب المذكور لیس من الكتب المعتبرة عند الاصحاب ولیس بمعلوم انّه من تصنیف علی بن خزاز الثّقة.
قلت: قد صرّح جمع من علمائنا الاعلام بانّه تصنیف هذا الثّقة الجلیل منهم العلّامة الحلّی فی اجازته لاولاد زهره ومنهم السیّد الجلیل العظیم السیّد عبدالكریم بن طاوس فی فرحة الغریّ ومنهم الشیخ الحرفی الوسائل وغیرهم من الفقهاء كابن شهر آشوب فی معالمه وغیره ایضاً «1».
فإن قلت: بناء علی ما ذكرت من التوجیه من انّه لایكون ارتكاب الشبهات حراماً ولاتكون علی فاعلها عقاب وعذاب یجب ان لایكون فعل الشبهة فعل الحرام ولایكون ارتكابها هلاكاً مع انّ بعض الاخبار كالخبر الاوّل تدلّ علی انّ من ارتكب الشبهة ارتكب الحرام بعینه وهلك، وبعضها تدلّ علی انّ ارتكاب الشبهة هو الاقتحام فی الهلاكة بعینه كالخبرین الاخیرین فمع ذلك كیف یمكن حمل هذه الاخبار علی الاستحباب.
قلت: یمكن الجواب بوجهین:
احدهما ان یكون المراد من كلّ من الهلاكة وارتكاب الحرام هو التأثیر الّذی یحصل من الحرام من الاضرار بصفاء النّفس وازالته عنها
______________________________
(1) راجع الذریعة للعلامة الطهرانی 17/ 86 و مقالنا حول هذا الكتاب فی كتابنا: «بیست مقاله»
جامعة الأصول، ص: 69
ورفع الحالات الحسنة والاخلاق الحمیدة عنها واحداث الكدرة والاخلاق السیّئة والحالات المذمومة الردیّة فیها فإن هذه التأثیرات یحصل من الحرام الواقعی وان لم یعلم الفاعل انّه حرام، ولاشكّ انّه لا یترتّب علیه العقاب ولكن هذه التأثیرات لاینفكّ عنه ولذا یأمر العرفاء من یرید كسب صفاء النّفس وتهذیب الاخلاق بالاجتناب عن جمیع الشّبهات فانّها ان كانت حراماً اثرّت اثره وان لم یترتب علیه العقاب فإنّ كثیراً من العرفاء اعترفوا وكتبوا فی مصنّفاتهم وكتبهم وبیّنوا فی مؤلّفاتهم وزبرهم بأنّهم بمجرّد فعل بعض المحرّمات الواقعیّة الّتی ما كانوا عالمین به زال عنهم صفاء النّفس وحدث الكدروة بل وفی بعض النّاس المحرّمات الواقعیّة یضرّ بأبدانهم وان لم یكونوا عالمین بها فأنّی عثرت علی شخص إذا اكل شیئاً محرّماً وإن لم یكن عالماً به عرض له بمجرّد الاكل الخفقان واضطراب القلب فی غایة الشدّة.
فالمراد من الهلاكة هو هذه الامور ولاشكّ انّها نوع من الهلاكة وبالجملة من تأمّل یجد انّ الحرام من حیث انّه حرام موجب لاحداث شقاوة فی النّفوس الانسانیّة ولذا حرّمه الشارع وهذا أحد اسرار الخفیّة والفائدة العظیمة لارسال الرسل وانزال الكتب.
قال: سیّدنا الصّادق صلوات اللَّه علیه وعلی آبائه وأولاده حین سئل لم حرّم اللَّه الخمر والمیتة والدّم ولحم الخنزیر:
انّ اللَّه تعالی لم یحرّم ذلك علی عباده واحلّ سواه رغبة منه فیما
جامعة الأصول، ص: 70
حرّم علیهم وزهداً فیما احلّ لهم «1» ولكنّه خلق الخلق وعلم تعالی ما یقوم به أبدانهم وما یصلحهم فاحلّه لهم واباحه تفضّلًا منه علیهم لمصلحتهم وعلم ما یضرّهم فنها هم عنه وحرّمه علیهم، ثمّ اباحه للمضطر واباحه له فی الوقت الّذی لا یقوم بدنه إلّا به وأمره ان ینال منه بقدر البلغة لاغیر ذلك.
ثمّ قال امّا المیتة فأنّه لا یدمنها أحد الّا ضعف بدنه ونحل جسمه وذهبت قوّته وانقطع نسله ولایموت آكل المیتة الا فجاءة.
وامّا الدّم فأنّه یورث اكله الماء الاصفر ویبخر الفمّ وینتن الرائحة ویسی‌ء الخلق ویورث الكلب والقسوة فی القلب وقلّة الرأفة والرّحمة حتی لا یؤمن ان یقتل ولده ووالدیه ولایؤمن علی حمیمه ولایؤمن علی من یصحبه.
وامّا لحم الخنزیر فإنّ اللَّه تعالی مسخ قوماً فی صورة شتّی شبه الخنزیر والقردة والدّب وما كان من المسوخ نهی عن أكله للمثلة لكیلا ینتفع النّاس بها ولایستخفّ النّاس بعقوبتها.
وامّا الخمر فأنّه حرّمها لفعلها وافسادها «2» وقال مدمن الخمر كعابد وثن یورثه الارتعاش وتذهب بنوره وتهدم مروّته وتحمله علی
______________________________
(1) فی العلل: من رغبة فیما احلّ لهم ولا زهد فیها حرّم علیهم
(2) فی الكافی: «ولفسادها» مكان «وافسادها»
جامعة الأصول، ص: 71
ان یجرء «1» علی المحارم من سفك الدّماء وركوب الزنا فلا یؤمن إذا سكران یثب علی محرمه «2» وهو لا یعقل ذلك والخمر لا یزداد شاربها الّا كلّ شرّ «3».
والاخبار الواردة الدّالة علی انّ لكلّ حرام تأثیراً ردیّاً خاصّاً یحدثه فی النّفس كثیرة ویدلّ علیه العقل والتجربة والاعتبار ایضاً كما لا یخفی علی من له ادنی تنبّه.
الثانی ان یكون المراد من قوله (علیه السّلام): «ارتكب الحرام» و «هلك» وامثالهما مما ورد بمعنی اشرف علی ارتكاب المحرّمات وتعرّض لما هو محتمل لذلك فإنّ امثال هذه العبارات فی هذه المقامات محمولة علی هذه المعانی كما یقال: من سافر وحده ضلّ عن الطریق أو اكله السّبع وغیر ذلك من الامثلة كما إذا ذهب أحد إلی حرب الاسد أو ادخل نفسه فی السفینة فی وقت الطوفان فیقال اهلك نفسه وكلّ من هذه الامثلة مجاز باعتبار ما یؤل إلیه.
ویمكن تأئید هذا الحمل بما ورد فی بعض خطب امیرالمؤمنین (علیه السّلام)
______________________________
(1) یجسر خ
(2) حرمه خ
(3) الكافی 6/ 242- البحار 62/ 134 نقلًا عن المحاسن 204 ومثل هذه الروایة عن الباقر (علیه السّلام) فی علل الشرائع 2/ 169
جامعة الأصول، ص: 72
حیث قال: انّ اللَّه تعالی حدّ حدوداً فلا تعتدوها وفرض فرائض فلا تنقصوها وسكت عن اشیاء لم یسكت عنها نسیاناً لها فلا تتكلّفوها رحمة من اللَّه لكم فاقبلوها ثمّ قال (علیه السّلام) حلال بیّن وحرام بیّن وشبهات بین ذلك فمن ترك ما اشتبه علیه من الاثم فهو لما استبان له اترك والمعاصی حمی اللَّه عزّوجلّ فمن یرتع حولها یوشك ان یدخلها «1».
فإنّ الظاهر ان قوله (علیه السّلام): «فمن یرتع حولها» اشارة إلی ارتكاب الشبهة لعدم تصوّر فرد آخر یكون مصداقاً له ولایخفی أنّ قوله (علیه السّلام): «فلا تتكفّلوها رحمة من اللَّه لكم» صریح فی اباحة الاشیاء الّتی لم یرد بها نصّ.
الثالث [ای من الاجوبة عن اخبار التوقّف] انّ اخبار التوقّف ان كانت مثبتة للتوقّف لكانت شاملة للتوقّف فی نفس الحكم الشرعی وفی الشبهة فی طریق الحكم الشرعی (وفیما احتمل الحرمة أم لا؟) «2» مع انّ القائلین بالتوقّف یقولون بأصل الاباحة فی الشبهة فی طریق الحكم الشرعی أو نفس الحكم الشرعی إذا لم یحتمل الحرمة.
الرابع منع انّ مالم یرد فیه نصّ أو لم یبلغنا دلیله داخل فی الشبهة، إذ
______________________________
(1) الفقیه 4/ 75 طبع مكتبة الصدوق. الوسائل 27/ 175
(2) ما بین () لیس فی تلك النسخة
جامعة الأصول، ص: 73
ادلّة التوقّف واردة فیما ورد فیه من الشرع نصّان متعارضان فإلحاق غیر المنصوص به قیاس باطل عند القائلین بالقیاس ایضاً لانتفاء الجامع بین الأصل والفرع. كذا قال بعض الفضلاء «1».
اقول: ان قلت: ما تعارض فیه النّصان فعند القائلین بالتوقّف فیما لا نصّ فیه یجب التوقّف فیه ایضاً وعند اكثر القائلین بالاباحة فیما لا نصّ فیه [الحكم] التخییر فیه لانّه فی معنی البراءة فحینئذٍ حمل اخبار التوقّف علی ما تعارض فیه النّصّان لا یناسب مذهب القائلین بالاباحة فیما لا نصّ فیه.
قلنا: والامر وان كان كذلك الّا انّهم لا یجزمون بالتوسعة فیما تعارض فیه النّصّان فی المداینات والمواریث لانّ الحكم بالتخییر فیها امر مشكل بل لا یمكن.
______________________________
(1) هو الفاضل التونی فی الوافیة ص 190
جامعة الأصول، ص: 74

حكم ما تعارض فیه النّصان]

ولمّا انجرّ الكلام إلی هنا فلا بأس أن نشیر إلی حكم ما تعارض فیه نصّان والخلاف الّذی وقع فیه والاشارة إلی دلیل الطرفین لیظهر لك حقیقة الحال وتحیط بأطراف المقال ولایبقی للشبهة حینئذٍ مجال ثمّ نرجع إلی ما كنّا فیه.
فنقول: ما تعارض فیه نصّان وكان لاحدهما مرجّح من المرجّحات المنصوصة من الشریعة فلا شبهة فی انّه یجب الاخذ به ویتعیّن العمل به. وبعضهم یعمل بكلّ مرجّح اعتبرها الاصولیّون لئلّا یلزم ترجیح المرجوح، ان عمل بالطّرف المرجوح، ویساوی الراجح والمرجوح، ان لم یعلم بأحدهما وتوقّف فی الحكم، ولیس المقام موضع تحقیق هذا فإنّه محتاج إلی نظر آخر. انّما الغرض هنا بیان الحكم فیما تعارض فیه نصّان وفقد الترجیح فی نظر الفقیه.
فنقول: اكثر القائلین بالاباحة والبراءة فیما لا نصّ فیه ذهبوا إلی التّوسعة والتخییر فیما تعارض فیه نصّان والقائلون بالتوقّف فیما لا نصّ فیه
جامعة الأصول، ص: 75
ذهبو إلی التوقّف هنا ایضاً والاخبار ایضاً مختلفة فی ذلك بعضها یدلّ علی المذهب الاوّل وبعضها یدلّ علی المذهب الثانی فلنذكر شطراً من الاخبار الواردة فی هذا الباب ثمّ نشیر إلی ما هو الحقّ فی نظرنا حتی یظهر جلیّة الحال.
فالّتی تدلّ علی المذهب الاوّل.
منها: ما رواه الحسن بن الجهم عن الرّضا (علیه السّلام) قال قلت للرّضا (علیه السّلام): تجیئنی الاحادیث عنكم مختلفة قال ما جاءك عنّا اعرضه «1» علی كتاب اللَّه عزّوجلّ واحادیثنا فإن كان ذلك یشبههما فهو منّا وان لم یكن یشبههما فلیس منّا.
قلت: یجیئنا الرّجلان وكلاهما ثقة بحدیثین مختلفین فلم نعلم ایّهما الحقّ قال إذا لم تعلم فموسّع علیك بایّهما أخذت «2».
ومنها: ما رواه الكلینی فی الصّحیح عن سماعة عن أبی عبداللَّه (علیه السّلام) قال: سألته عن رجل اختلف علیه رجلان من أهل دینه فی امر كلاهما یرویه أحدهما یأمر بأخذه والاخر ینهاه عنه كیف یصنع؟ قال: یرجئه حتّی یلقی من یخبره فهو فی سعة حتّی یلقاه وفی روایة اخری: بأیّهما أخذت من باب التّسلیم وسعك «3».
______________________________
(1) فقس. خ
(2) الوسائل 27/ 121 نقلًا عن الاحتجاج 357
(3) الكافی 1/ 66. الوسائل 27/ 108
جامعة الأصول، ص: 76
ومنها: ما رواه محمّد بن ابراهیم بن أبی جمهور اللّحساوی فی كتابه عوالی الّلألی عن العلّامه مرفوعاً إلی زرارة بن اعین قال: سألت الباقر (علیه السّلام) فقلت: جلعت فداك یأتی عنكم الخبران أو الحدیثان المتعارضان فبأیّهما آخذ؟ فقال: «یا زرارة خذ بما اشتهر بین اصحابك ودع الشّاذ النّادر. فقلت: یا سیّدی انّهما معاً مشهوران مرویّان مأثوران عنكم. فقال (علیه السّلام): خذ بما یقول اعدلهما عندك وأوثقهما فی نفسك فقلت: انّهما معاً عدلان مرضیّان موثقان فقال: ما وافق منهما مذهب العامّة فاتركه وخذ بما خالفهم فإنّ الحقّ فیما خالفهم فقلت: ربّما كانا معاً موافقین لهم أو مخالفین فكیف اصنع؟ فقال: إذن فخذ بما فیه الحائطة لدینك و اترك ما خالف الإحتیاط. فقلت: انّهما معاً موافقان للإحتیاط أو مخالفان له فكیف اصنع؟ فقال (علیه السّلام): فاذن فتخیّر أحدهما فتأخذ به وتدع الاخر.
وقال بعد ذكر هذا الخبر: وفی روایة اخری انّه (علیه السّلام) قال: «فاذن فارجه تلقی امامك فتسأله» «1».
ومنها: ما رواه الشیخ الطبرسی (قدّس سرّه) فی كتاب الاحتجاج فی احتجاج مولانا وسیّدنا الصادق (علیه السّلام) عن الحارث بن المغیرة عن أبی‌عبداللَّه (علیه السّلام) قال: «إذا سمعت من اصحابك الحدیث وكّلهم ثقة فموسّع علیك
______________________________
(1) غوالی اللئالی 4/ 133. الوافیة 329
جامعة الأصول، ص: 77
حتی‌تری القائم (علیه السّلام) فتردّه إلیه» «1».
ومنها: ما رواه علیّ بن مهزیار فی الصّحیح قال: قرأت فی كتاب لعبداللَّه بن محمّد إلی ابی‌الحسن (علیه السّلام): اختلف اصحابنا فی روایاتهم عن أبی‌عبداللَّه (علیه السّلام) فی ركعتی الفجر فی السّفر فروی بعضهم ان صلّها فی المحمل وروی بعضهم ان لا تصلّهما الّا علی وجه الارض فاعلمنی كیف تصنع انت؟ لاقتدی بك فی ذلك فوقع (علیه السّلام): موسّع علیك بأیّهما عملت «2».
ولا یخفی انّ هذا الخبر لا یدلّ علی المطلوب مطلقاً لأنّ المعصوم (علیه السّلام) هنا لم یأمر بالتّوسعة والتخییر باعتبار اختلاف الرّوایات عن أبی‌عبداللَّه (علیه السّلام) بل امره بالتّوسعة كان حكماً استینافیّاً صادراً منه (علیه السّلام) وكیف یمكن حمله علی الاوّل مع تحقّق الحكم الواقعی عنده (علیه السّلام)؟ فتأمّل.
ومنها ما روی الشیخ الطبرسی رحمه اللَّه تعالی فی جواب مكاتبة محمّد بن عبداللَّه الحمیری (قدّس سرّه) إلی صاحب الزّمان (علیه السّلام) یسألنی بعض الفقهاء عن المصلّی إذا قام من التشهّد الاولی إلی الركعة الثالثة هل یجب علیه ان یكبّر؟ فإنّ بعض اصحابنا قال: لایجب علیه تكبیرة ویجزیه ان یقول: بحول اللَّه وقوّته اقوم واقعد فوقّع (علیه السّلام) فی الجواب
______________________________
(1) الاحتجاج 357 طبع 1403. الوافیة 324. الوسائل 27/ 122
(2) التهذیب 3/ 228. الوسائل 27/ 122
جامعة الأصول، ص: 78
عن ذلك حدیثان امّا أحدهما فإنّه إذا انتقل من حالة إلی حالة اخری فعلیه التكبیر وامّا الحدیث الاخر فإنّه روی إذا رفع رأسه من السّجدة الثّانیة وكبّر ثمّ جلس ثمّ قام فلیس علیه فی القیام بعد القعود تكبیر وكذلك التشهّد الاوّل یجری هذا المجری فبأیّهما أخذت من باب التّسلیم كان صواباً «1».
تأمّل فی هذا الحدیث ایضاً.
ومنها: ما روی ثقة الاسلام فی خطبة الكافی عن العالم (علیه السّلام) وفی موضع اخر منه ایضاً بقوله: وفی روایة: بایّهما أخذت من باب التسلیم وسعلك «2».
وامّا الاخبار الدّالة علی المذهب الثانی فروایات.
منها: مقبولة ابن حنظلة حیث قال (علیه السّلام) فی آخره: «إذا كان كذلك فارجه حتّی تلقی امامك فإنّ الوقوف عند الشّبهات خیر من الاقتحام فی الهلكات» «3».
ومنها: ما رواه الشیخ الطبرسی فی الاحتجاج عن سماعة بن مهران قال: سألت اباعبداللَّه (علیه السّلام) قال: قلت له: یرد علینا حدیثان واحد یأمرنا
______________________________
(1) الوسائل 27/ 121 نقلًا عن الاحتجاج 483
(2) الكافی 1/ 9 و 66
(3) الوسائل 27/ 107 و فیه: فارجئه.
جامعة الأصول، ص: 79
بالاخذ به والاخر ینهانا عنه قال: لا تعمل بواحد منهما حتّی تلقی «1» تأتی صاحبك فتسأله عنه قال: قلت: لابدّ ان نعمل بأحدهما قال: خذ بما فیه خلاف العّامّة «2».
ومنها: ما اشرنا إلیه من قول أبی‌جمهور اللّحساوی حیث قال: وفی روایة اخری انّه (علیه السّلام) قال: إذن فارجه حتی تلقی امامك فتسأله «3».
ومنها: موثقة سماعة المتقدّمة فی طیّ اخبار المذهب الاوّل حیث قال: سألته عن رجل اختلف علیه رجلان من أهل دینه فی أمر كلاهما یرویه أحدهما یأمر بأخذه والاخر ینهاه عنه كیف یصنع؟ قال: یرجه حتی یلقی من یخبره فهو فی سعة حتی یلقاه «4».
وانمّا ذكرنا هذا الخبر فی المقامین لامكان الاستدلال به علی كلّ من المذهبین.
هذه جملة الاخبار الواردة فی المقام ولاشكّ انّ الترجیح للقسم الاوّل من الاخبار لاكثریته واصحیّة سنده وأوفقیّته بالملّة السّمحة السّهلة واشهرتیّه بین الفرقة المحقّة وعدم منافات قوله (علیه السّلام): «فارجئه حتی تلقی امامك» الوراد فی القسم الثانی من الاخبار الّذی هو موضع الاستدلال
______________________________
(1) فی الاصل: حتی تأتی
(2) الاحتجاج 357. الوسائل 27/ 122
(3) غوالی اللئالی 4/ 133
(4) الوسائل 27/ 108. الكافی 1/ 66
جامعة الأصول، ص: 80
للتوسعة والتخییر، لانّه یمكن ان یكون المراد من الارجاء هو ارجاء الحكم الواقعی، فإن العلم بالحكم الواقعی موقوف علی الاستماع من الامام وهذا لاینافی التّوسعة والتخییر فی أحدهما فی العمل من باب الرّخصة والاباحة كما یدلّ علیه القسم الاوّل من الاخبار.
وبالجملة غرضهم (علیهم السّلام) من الردّ إلی العالم هو ردّ العلم، ولاینافی ذلك العمل من باب الرّخصة.
ویدلّ علی ذلك كلام ثقة الاسلام محمّد بن یعقوب الكلینی فی خطبة الكافی حیث قال مخاطباً لمن سأل تصنیف الكافی: قلت: انّك تحبّ ان یكون عندك كتاب كاف یجمع من جمیع فنون علم الدّین ما یكتفی به المتعلّم ویرجع إلیه المسترشد ویأخذ من یرید علم الدّین والعمل به بالاثار الصّحیحة عن الصّادقین (علیهم السّلام) ... فاعلم یا اخی ارشدك اللَّه انّه لا یسع احداً تمییز شی‌ء مما اختلفت الرّوایة فیه عن العلماء (علیهم السّلام) برأیه الّا ما اطلقه العالم بقوله (علیه السّلام):
اعرضوها علی كتاب اللَّه عزّوجلّ [فما وافی كتاب اللَّه عزوجلّ] فخذوه و ما خالف كتاب اللَّه فردّوه.
وقوله (علیه السّلام): دعوا ما وافق القوم فإنّ الرشد فی خلافهم.
وقوله (علیه السّلام): خذوا بالمجمع علیه فإنّ المجمع علیه لاریب فیه.
ونحن لانعرف من جمیع ذلك الّا أقلّه ولانجد شیئاً احوط ولا أوسع من ردّ علم ذلك كلّه إلی العالم وقبول ما وسع من الامر بقوله: بأیّهما
جامعة الأصول، ص: 81
اخذتم من باب التسلیم وسعكم. انتهی موضع الحاجة من كلامه «1» شكر اللَّه مساعیه الجمیلة.
وذلك لانّه (قدّس سرّه) قال: ولانجد شیئاً احوط وأوسع من ردّ علم ذلك كلّه إلی العالم وقبول ما وسع من الامر الخ.
فإنّ المردود إلی العالم هو العلم لا الأخذ بأحدهما. وكلامه (قدّس سرّه) صریح فی انّ الحكم فیما اختلف فیه الروایات بعد العجز عن الترجیح هو التوسعة والتخییر. والظاهر انّ مستند بعض علمائنا فی نسبة هذا المذهب إلی هذا الشیخ الجلیل هذه العبارة وهو كذلك بلا تأمّل هذا.
وبعضهم «2» حمل الاخبار الدّالة علی التخییر علی العبادات المحضة والاخبار الدّالة علی التوقّف علی ما لیس كذلك كالدین والمیراث ونحوهما.
ونفی البعد عنه بعض المتأخرین «3» مستدلًا بأنّ هذه الاخبار وردت فی المنازعات والمخاصمات.
ویمكن حمل اخبار التوقّف علی صورة كان الملكّف متمكناً من الوصول إلی الامام كما جمع الاخبار بهذا النحو الشیخ الجلیل الطبرسی (قدّس سرّه)
______________________________
(1) الكافی 1/ 8 و 9
(2) هو الاسترآبادی فی الفوائد المدنیّة 192.
(3) لعلّ المقصود الشیخ الحرّ فی الوسائل 27/ 108 و 112 ولكن الفاضل التونی قال فی الوافیة 335: ظاهر الروایات یأبی هذا الجمع ... فراجع.
جامعة الأصول، ص: 82
فی الاحتجاج حیث قال بعد ذكر خبر:
جاء هذا الخبر علی سبیل التقدیر لانّه قلّما یتّفق ان یرد فی الاثار خبران مختلفان فی حكم من الاحكام موافقین للكتاب والسنّة وذلك مثل الحكم فی غسل الوجه والیدین فی الوضوء فإنّ الاخبار جاءت بغسلها مرّة مرّة وبغسلها مرّتین وظاهر القرآن لا یقتضی خلاف ذلك بل یحتمل كلتا الروایتین ومثل ذلك یوجد فی احكام الشرع.
وامّا قوله: «ارجئه وقف حتی تلقی امامك» امره بذلك عند تمكّنه من الوصول إلی الامام فأمّا إذا كان غائباً ولا یتمكّن من الوصول إلیه والاصحاب كلّهم مجمعون علی الخبرین ولم یكن هناك رجحان لرواة أحدهما علی رواة الاخر بالكثرة والعدالة كان الحكم بهما من باب التخییر.
ویدلّ علی ما قلناه ما روی عن الحسن بن الجهم عن الرّضا (علیه السّلام) قال: قلت له: تجیئنا الاحادیث عنكم مختلفة. قال: «ما جاءك عنّا فاعرضه علی كتاب اللَّه واحادیثنا فإن كان یشبههما فلیس منّا [وان لم یكن یشبههما فلیس منّا] قلت: یجیئنا الرّجلان وكلاهما ثقة بحدیثین مختلفین فلا نعلم ایّهما الحقّ. فقال «إذا لم تعلم فموسّع علیك بأیّهما أخذت». جامعة الأصول 83 [حكم ما تعارض فیه النصان] ..... ص : 74
ا رواه الحارث بن المغیرة عن أبی‌عبداللَّه (علیه السّلام) قال: «إذا سمعت من اصحابك الحدیث وكلّهم ثقة فموسع علیك حتی تری القائم
جامعة الأصول، ص: 83
صلوات اللَّه علیه وتردّه علیه» «1» انتهی كلام شیخنا الطبرسی (قدّس سرّه).
ولایخفی انّ فی روایة الحارث بن المغیرة اشعار بهذا الجمع كما لایخفی.
ویمكن حمل اخبار التوقّف علی الاستحباب لانّك عرفت انّ الظاهر ان ترك الشبهة مستحبّ ولاشكّ انّ ما تعارض فیه النّصان من الشّبهة.
ویدلّ علی استحباب ترك الشبهة مضافاً إلی ما ذكرنا سابقاً ما ورد انّ من ترك المحرّمات فهو اتقی النّاس «2».
ووجه الاستدلال انّه یصیر اتقی بمجرّد ترك المحرّمات وان لم یترك الشبهات.
وماورد من انّ لا ورع مثل ترك الشبهة «3».
وأورع النّاس من ترك الشبهة «4».
وفی دلالة الاخیرین تأمّل.
ویمكن حمل اخبار التوقّف ایضاً بانّ الردّ باعتبار الحكم الواقعی
______________________________
(1) الاحتجاج 2/ 263 طبع الاسوة
(2) راجع وسائل الشیعة 15/ 261 وفیه اورع النّاس. و راجع الرسائل الاصولیّة (رسالة اصالة البرائة) للوحید البهبهانی ص 387 وذیله
(3) نهج البلاغة 1130 من الكلمات القصار وفیه لا ورع كالوقوف عند الشبهة وراجع الوسائل 27/ 161
(4) الخصال 16. وسائل الشیعة 27/ 162
جامعة الأصول، ص: 84
واخبار التوسعة علی التخییر فی العمل.
وإلیه ذهب شیخنا الفقیه المتألّه مولاعبدالمحسن الكاشانی (قدّس سرّه) فی الوافی حیث قال:
ولایخفی انّ ردّ علمه الیهم (علیهم السّلام) لاینافی التخییر فی العمل من باب التسلیم فلا یجوز الفتوی بأنّه حكم اللَّه فی الواقع وان جاز الفتوی بجواز العمل به وجاز العمل به. انتهی كلامه رفع فی اعلی علییّن مقامه «1».
وبعضهم حمل اخبار التوقّف علی الامور المستحبّة واخبار التوسعة علی الواجبة.
ولایخفی ضعف هذا الحمل وعدم صحّته.
ثمّ اعلم انّ الاخباریین القائلین بالتوقّف فیما تعارض فیه النصّان لم یجیبوا عن اخبار التوسعة الّا بالمعارضة باخبار التوقّف.
قال شیخنا المتقدّم ذكره فی الوافی بعد ذكر روایة زرارة المتقدّمة الّتی رواها محمّد بن ابراهیم بن أبی‌جمهور اللّحساوی فی كتاب العوالی اللآلی عن العلامة مرفوعاً:
والاخبار فی هذا المعنی كثیرة وقد أوردنا شطراً منه فی كتابنا المسمّی بسفینة النجاة «2» وفی كتابنا «3» الموسوم بالاصول الاصیلة «4»
______________________________
(1) الوافی 1/ 66 الطبع الحجری
(2) سفینة النجاة
(3) الاصول الاصلیّة ص 86
(4) الوافی 1/ 66
جامعة الأصول، ص: 85
والجواب «1» من جواب الاخباریین المعارضة بعموم الادلّة السّابقة بل الموضع اظهر افراده وخصوص روایة عمر بن حنظلة حیث قال: إذا كان ذلك فارجئه حتی تلقی امامك فإن الوقوف عند الشّبهات خیر من الاقتحام فی الهلكات «2» وقوله (علیه السّلام) فی روایة سماعة: یرجئه حتی یلقی من یخبره وهو فی سعة حتی یلقاه «3».
وقال ایضاً: وفی بعض ما أوردته من الاخبار فی كتابنا المسمّی بسفینة النّجاة وفی كتابنا المسمّی بأصول الاصیلة: وما لم تجدوه فی شی‌ء من هذه الوجوه فردّوا الینا علمه فنحن أولی بذلك ولاتقولوا فیه بآرائكم وعلیكم بالكفّ والتثبّت والوقوف وانتم طالبون باحثون حتی یأتیكم البیان من عندنا ایضاً. انتهی كلامه رفع مقامه «4».
وانت خبیر بأنّ مجرّد المعارضة لایكفی لترجیح اخبار التوقّف فانّه لایخفی انّه.
ان بنی‌الامر علی الجمع فالقوّة فی طرف اخبار التوسعة لامكان تأتی وجوه متعدّدة من الجمع فی اخبار التوقّف كما عرفت وعدم امكان حمل اخبار التوسعة علی شی‌ء یلائم التوقّف.
______________________________
(1) قوله: والجواب إلی قوله: یلقاه لیس فی الوافی فراجع
(2) الوسائل 27/ 107
(3) الوسائل 27/ 108
(4) الوافی 1/ 66
جامعة الأصول، ص: 86
وان بنی الامر علی الطّرح فطرح اخبار التوقّف أولی وانسب لانّ اخبار التوسعة اكثر عدداً واصحّ سنداً وأوضح متناً واشهر عند الطائفة عملًا وبالملّة السّمحة السّهلة اشدّ مناسبة وبالقرآن العزیز اكثر موافقة لانّ التخییر فی معنی الاباحة لانّه لا یلزم العقاب علی ترك كلّ واحد منهما إذا اتی بالاخر والآیات الّتی تدلّ علی أصل البراءة والاباحة تدلّ علی ذلك ایضاً.
ثمّ انّه یرد علی الاخباریین القائلین بالتوقّف انّ مذهبكم إذا كان التوقّف فیما تعارض فیه النّصان فهذه المسألة ایضاً ممّا تعارض فیه النّصان فكان الواجب فیه ایضاً التوقّف بین التوسعة والتوقّف فلم حكمتم بطرف واحد فقط اعنی التوقّف.
ویمكن قلب هذا الایراد علی الاصولیین القائلین بالتوسعة ایضاً.
ولهم ان یقولوا فی الجواب: هذا بعد العجز عن المرجّح، والمرجّح فیما نحن فیه موجود ولایمكن للاخباریین ان یقولوا ذلك لعدم وجود مرجّح لهم كما عرفت.
إذا علمت ما ذكرنا فاعلم انّ الترجیح وان كان لاخبار التوسعة والتخییر مطلقاً كما عرفت ولكن یرد فی بعض صور ما تعارض فیه النّصان اشكالات ولایمكن القول بالتوسعة فیها فلنشر إلی بعض الصّور المتصوّرة فیه لیظهر جلیّة الحال.
جامعة الأصول، ص: 87
فنقول: تعارض النّصیّن امّا ان یكون فی العبادات أو غیرها.
والاوّل علی قسمین.
احدهما ان یرد النّصان كلاهما فی وجوب عبادة أو استحبابها الّا انّ العبادة الّتی ثبّتها أحد النّصین مخالفة للّتی ثبّتها الاخر مادّة أو صوره مثلًا ورد نصّ بانّ صلاة معیّنة ركعتان والاخر ورد انّها اربع ركعات كالقصر والاتمام فیما بلغ اربع فراسخ ولم یبلغ الثمانیة. أو بعض واجبات هذه الصّلاة الّتی یثبّتها أحد النّصین اقل أو أكثر من الّذی یثبّتها الاخر كالامر فی اختلاف النصوص الواردة فی التسبیح فی الرّكعتین الاخیرتین. أو ورد نصّ بأنّ هذه الصّلاة قنوتها قبل الركوع والاخر ورد علی خلافه. ففی هذا القسم لاشكّ فی امكان التوسعة والتخییر بعد العجز عن الترجیح ولایرد اشكال مطلقاً واختیار العلماء التّوسعة والتخییر فی امثال هذه المواضع كثیرة جدّاً فی الكتب الفقهیّة.
ولایرد علیه انّ التخییر فی المعنی اباحة مطلقة والعبادة یجب ان یكون مشتملة علی الرّجحان لانّا نقول: الرّجحان موجود إذا اختاره كلّ واحد منهما وهو ظاهر.
وثانیها ان یرد النّصان كلاهما فی عبادة واحدة من جمیع الوجوه من غیر ان یكون ما یثبته أحد النصّین مغایراً لما یثبته الاخر مادّة أو صورة ولكن أحدهما یدلّ علی وجوبه مثلًا والاخر علی استحبابه أو یدلّ احدهما علی وجوبه و الاخر علی حرمته او كراهته او احدهما علی
جامعة الأصول، ص: 88
استحبابه والاخر علی الحرمة أو الكراهة ففی هذه الشقوق سیّما غیر الاوّل یرد انّه كیف یكون التخییر بین الحرام والواجب أوالاستحباب أو بین الواجب والكراهة وكذا فی كلّ ما ذكر كیف یكون فعل واحد مفسدة ومصلحة وكیف یتصوّر فعل یكون المكلّف بفعله وتركه كلیهما مثاباً.
وقال بعض العلماء باختیار التّرك یصیر حراماً وباختیار الفعل یصیر واجباً لامر الشّارع وان كان فی الواقع واجباً أو حراماً ففی الحقیقة هذا عفو ورخصة من قبل الشّریعة.
وذكر بعض الاصولییّن انّه إذا كان الفعل دائراً بین الواجب والحرام یجب تغلیب جانب الحرمة.
وبالجملة فی امثال هذه الشّقوق ینبغی الإحتیاط مهما امكن والتوقّف ان لم یمكن.
والثانی ایضاً علی قسمین:
أحدهما ان یكون فی حقوق النّاس من المداینات والمواریث أو غیرها مثل ان یدلّ نصّ علی انّ رجلًا مستحقّ لانّ یأخذ من الاخر شیئاً والاخر یدلّ علی عدم استحقاقه، أو دلّ أحدهما علی انّ هذا المال من هذا الرّجل والاخر علی انّه لذلك، وكذا المیراث بأن یكون أحد النّصین دالًّا علی انّ هذا الرجل یرث من آخر والاخر علی خلافه، أو علی انّ هذا المیراث لرجل والاخر علی انّه لاخر، أو دلّ أحدهما علی الاشتراك والاخر علی الانفراد، وامثال هذه المواضع، فإنّ التخییر والتّوسعة بعد
جامعة الأصول، ص: 89
العجز عن الترجیح امر مشكل فی امثال هذه المقامات ولامعنی للتخییر والتّوسعة فیها فإنّ التخییر والتوسعة ان كان بالنسبة إلی القاضی فلا یثمر هذا فائدة لعدم دفع النزاع حینئذٍ وان كان بالنسبة إلی أحد المتخاصمین فهو ترجیح بلا مرجّح ومع ذلك لا یتحقّق هنا ترجیح وان كان بالنّسبة إلیهما معاً فلا یمكن دفع النّزاع مطلقاً لأنّ كلّا منهما یرید ان یأخذه هو وبالجملة ان وجد امثال هذه المسائل فإن امكن الإحتیاط فیها یجب ان یحتاط بالمصالحة والهبة وغیر ذلك والّا یجب التوقّف فإنّ المقام مقام اشكال.
الثانی مثل ان یدلّ نصّ علی حلیّة امرءة لرجل والاخر علی حرمتها علیه، أو علی حلیّتها لرجل آخر، فإنّ التخییر فیه ایضاً امر مشكل لما عرفت. وان امكن ان یقال: انّ اختار الحرمة یترتّب علیه الاثار المترتّبة علیها وان اختار الحلیّة فیترتّب علیها ایضاً الاثار المترتّبة علیها مثل الحاق الوالد وتحقیق الارث بینهما وغیر ذلك الّا انّه ینبغی فی هذه المواضع ایضاً الإحتیاط لما عرفت.
فثبت بما تلوناه علیك انّ الامر فی بعض موارد ما تعارض فیه النّصان خصوصاً المداینات والمواریث هو الإحتیاط والتوقّف فحینئذٍ تعلم انّ حمل اخبار التوسعة علی العبادات واخبار التوقّف علی المداینات والمواریث كما ارتكبه بعض وذكرنا انّه ارتضاه بعض من المتأخرین، حسن جدّاً سیّما صدر بعض اخبار التّوقّف یدلّ علیه كقول السائل: سألت ابا عبداللَّه (علیه السّلام) عن رجلین یكون بینهما منازعة فی
جامعة الأصول، ص: 90
میراث أو دین- الحدیث- «1».
والباعث حقیقة علی حمل اخبار التوقّف علی المیراث والدّین هو ما ذكرنا وللجمع بین الاخبار، فسقط حینئذٍ ما قیل فی المقام من انّ خصوص السّؤال لا یخصّص عموم الجواب، وبأنّ الترجیحات الّتی اشتمل علیها اخبار التوقّف لم یخصّها أحد بالمداینات والمنازعات، فإنّ هذه الترجیحات لیست مخالفة لادلّة اخر حتّی یجب تخصصیها أولا یعمل بها.

[الرجوع إلی البحث فی أصل الاباحة]

إذا عرفت هذا فنرجع إلی المطلوب اعنی الكلام فی أصل الاباحة فنقول: ممّا ذكرنا علمت انّ الاخبار الّتی استدلّوا بها علی التوقّف فیما لا نصّ فیه یمكن حملها علی ما تعارض فیه النّصان ویكون من المواریث أو المداینات وتخصیص الشبهة به وحینئذٍ یكون موافقاً لمذهب القائلین بالإباحة فیما لا نصّ فیه فتأمّل.
فإن قلت: فعلی هذا التوجیه لا یكون ما لانصّ فیه من افراد الشبهة ویجب التوقّف كقول امیرالمؤمنین (علیه السّلام) فی خطبته كما رواه الفقیه علی ماسبق: انّ اللَّه حدّ حدوداً فلا تعتدّوها وفرض فرائض فلا تنقصوها
______________________________
(1) الوسائل 27/ 107
جامعة الأصول، ص: 91
وسكت عن اشیاء لم یسكت عنها نسیاناً فلا تتكلّفوها رحمة من اللَّه لكم فاقبلوها ثمّ قوله (علیه السّلام): حلال بیّن وحرام بیّن وشبهات بین ذلك- الحدیث- «1».
والظاهر ان السّكوت انّما هو باعتبار عدم النّص بالمرّة.
وقول الصادق (علیه السّلام) فی حدیث [حمزة بن] الطیّار: «لایسعكم فیما ینزل بكم ممّا لا یعلمون الّا الكفّ والتثبّت والردّ إلی أئمّة الهدی (علیهم السّلام) حتّی یحملوكم فیه علی القصد» «2».
قلت:
الخبر الاوّل الجزء الّذی منه ظاهر فیما لانصّ فیه اعنی قوله (علیه السّلام): «وسكت عن اشیاء» مشتمل علی قوله: «فلا تتكلّفوها» الدالّ علی الاباحة كما لا یخفی والجزء الثانی منه اعنی قوله: «وحلال بیّن- إلی أخره-» لیس فیه ما یدلّ علی ما لانصّ فیه فیمكن ان یخصّص بما تعارض فیه النّصان بل الواجب ان یحمل كذلك حتی یتلائم كلا جزئی الخبر.
وامّا الخبر الثانی فلیس فیه ما یدلّ علی انّ المراد منه ما لا نصّ فیه.
علی انّك قد عرفت اجوبة كثیرة لترجیح اخبار الإباحة والبراءة.
ثمّ انّ الاخباریین القائلین بالتوقّف ارتكبوا لترجیح مذهبهم اموراً غیر مرضیّة عند أولی الطبائع المستقیمة.
______________________________
(1) الفقیه 4/ 75، الوسائل 27/ 175
(2) الوسائل 27/ 155. الكافی 1/ 50. المحاسن 216
جامعة الأصول، ص: 92
فأجاب بعضهم عن الآیات بمنع حجیّة القرآن مطلقاً وبعضهم بأنّ المسلّم حجیّته من القرآن ما كان محكم الدّلالة والآیات المذكورة مجملة غیر ناصّة علی المطلوب.
والجواب عن الاوّل معلوم عند كلّ من له دربة فإنّ منع حجیّة القرآن مطلقاً مخالف لما علیه المسلمون فانّهم لا یزالون فی الاقطار والامصار مدی الاعصار یستدلّون بالآیات القرآنیّة وكذا كان اصحاب الرّسول (صلّی اللَّه علیه و آله) والائمّة (علیهم السّلام).
والقول بأنّ جمیع من كان یستدلّ بالقرآن سمع أو بلغ تفسیره إلیه من المعصوم (علیه السّلام) لایخفی ما فیه. وایضاً هو مخالف للاخبار الكثیرة كقوله (صلّی اللَّه علیه و آله): «انّی تارك فیكم الثقلین كتاب اللَّه وعترتی لئن تمسّكتم بهما لن تضلّوا» «1» وقد ورد ان القرآن هو الثقل الاكبر «2» وورد اخبار كثیرة بالامر بالتمسّك بالكتاب والعترة «3» وبالجملة هذا امر ظاهر. وامتدّ دائرة النزاع بین الاصولییّن والاخبارییّن. وتفصیل هذا لیس هنا موضع ذكره.
______________________________
(1) راجع غایة المرام للبحرانی ص 211 الباب 28 فی نصّ رسول اللَّه (صلّی اللَّه علیه و آله) علی وجوب التمسّك بالثقلین
(2) غایة المرام ص 214 الحدیث 19
(3) راجع غایة المرام ص 211- 235
جامعة الأصول، ص: 93
وامّا الجواب عن الثانی فانّك قد عرفت فی مقام الاستدلال بالایات صراحتها فی المطلوب.
وما ورد فی تفسیر قوله تعالی: خَلَقَ لَكُمْ «4» عن امیرالمؤمنین (علیه السّلام) حیث قال: «خلق لكم ما فی الارض لتعتبروا به ...» «5».
فعلی تقدیر ثبوته لا ینافی ما ذكرنا فإنّا بیّنا ان مفاد الآیة عموم الانتفاع وهذا ایضاً فرد منه ولا یدلّ الخبر علی الحصر.
مع انّ تخصیص القرآن بالخبر الضّعیف الغیر المنجبر بالعمل، الظاهر ممّا لم یقل به أحد.
واجابوا عن الاخبار بوجوه «1»:
منها: انّ الاخبار المذكورة اخبار احاد لا یفید شیئاً الّا الظنّ والمسألة من الأصول.
ومنها: حملها علی الخطابات الشّرعیّة بمعنی انّ الخطابات الشّرعیّة العامّة أو المطلقة باقیة علی عمومها أو إطلاقها حتّی یرد نهی فی بعض افرادها.
ومنها: انّ هذه الاخبار موافقة للعامّة لدلالتها علی التثنیة فی الاحكام
______________________________
(4) البقرة: 29
(5) الصافی فی ذیل الآیة ص 25 الطبع الحجری
(1) راجع الوسائل 27/ 174
جامعة الأصول، ص: 94
اعنی الحلّ والحرمة وعدم وجود المتشابه فیها وهو مذهب العامّة لعدم قولهم بالتوقّف والإحتیاط فیجب الاخذ بالاخبار الموافقة «1» لهم.
ومنها: انّ الاخبار المذكورة تدلّ علی الاباحة والبراءة فی صورة عدم العلم وعدم ورود النّهی، واخبار التوقّف مشتملة علی النّهی ومفیدة للعلم بالحكم اعنی الإحتیاط أو التوقّف، فیجب حینئذٍ ان یخصّص الاخبار الدّالة علی الاباحة والبراءة علی قبل ورود الشرع أو بمن لم یصل إلیه النّهی الوارد فی اخبار التوقّف من الجهال فمن بلغ إلیه اخبار التوقّف لا یمكنه الاخذ بالاباحة.
ومنها: أنّ الاخذ باخبار التوقّف موافق للإحتیاط ومعاضد بالاخبار الواردة فیه وهی كثیرة فیجب الاخذ بها.
والجواب عن الاوّل انّك قد عرفت انّ الاستدلال لم یكن منحصراً بالاخبار بل بها وبالآیات والعقل والاجماع فیحصل من جمیعها العلم القطعی، مع انّ الاخبار الواردة فی هذا الباب مستفیضة بل قریبة بالتواتر المعنوی هذا.
مع انّ عدم جواز اثبات الأصل باخبار الاحاد ممنوع، كیف والسنّة من اعظم الأصول مع انّها تثبت باخبار الاحاد والقول بعدم حجیّتها غیر معمول به عند الامامیّة سیّما فی امثال زماننا هذا.
______________________________
(1) كذا فی الاصل. والصحیح ظاهراً: المخالفة.
جامعة الأصول، ص: 95
مع انّ هذا الایراد ان كان وارداً فوروده علی الاخبارییّن اشدّ لأنّ استدلالهم منحصر بالاخبار، والقول بانّها بلغت حدّ التواتر ممنوع كما عرفت.
والجواب عن الثانی ظاهر.
امّا اوّلًا فلانّ الاخبار الواردة فی المقام كانت عامّة أو مطلقة فیكون شاملة للجمیع فالتخصیص بغیر دلیل خلاف الأصل وخلاف ما تقتضیه هذه الاخبار بناء علی ما حملوها علیه. فهذا الایراد الذی أوردوه حجّة علیهم.
وامّا ثانیاً فلانّ حمل الاخبار المذكورة علی الصّورة المفروضة غیر ممكن اللّهمّ الّا فی نادر علی سبیل التكلّف، فإنّ اكثر الاخبار مضمونها انّ قبل البیان لا یكون مؤاخذة، والموضع الّذی ورد فیه العام، لایصدق علیه انّه لم یرد فیه بیان كیف والعامّ یدلّ علی جمیع ما تحته دلالة واضحة.
وكذا قوله (علیه السّلام): «كلّ شی‌ء مطلق حتی یرد فیه نصّ» «1» لایمكن حمله علی الصّورة المذكورة لانّ الافراد المندرجة تحت النّص العام لا یصدق علیها انّها لم یرد فیها نصّ وكذا لا یناسب هذا التوجیه مع الاخبار الّتی مضمونها «انّ النّاس فی
______________________________
(1) غوالی اللئالی 2/ 44 فیه: «نصّ» و 3/ 146 وفیه «منع» و 3/ 462 وفیه «نهی» وقد مرّ انّ فی بعض المصادر «امر او نهی» او «امر و نهی» فراجع
جامعة الأصول، ص: 96
سعة حتی یعلموا» لأنّه قد یكون العام الّذی ورد نهیاً محرمّاً للافراد الّتی تحت هذا العام وحینئذٍ یكون معنی السّعة بقاء التّحریم علیهم وهذا اطلاق لم یقل به أحد من ارباب العقول.
والجواب عن الثالث بعد تسلیم أنّ مذهب العامّة التثنیة فی الاحكام: ان اكثر الاخبار الواردة فی الترجیح وقع فیها العرض بالكتاب مقدّماً علی الاخذ بمخالفة العامّة ولاشكّ انّ الموافقة للقرآن لاخبار الاباحة.
هذا مع انّ اخبار التوقّف لا یمكن ان یقاوم مع ادلّة الاباحة حتی یحتاج إلی الترجیح لانّك قد عرفت انّ الاخبار الدّالة علی التوقّف انحصرت فی الاخبار الدّالة علی التثلیث وهی قلیلة فلیست بحیث یثبت التعارض بینها و بین الآیات و الاخبار الكثیرة والعقل والاجماع.
وامّا الجواب عن الرّابع فبأنّ الحمل علی قبل ورود الشریعة لا یمكن فی كثیر منها كما عرفت.
والحمل علی انّ المراد بالجاهل الجاهل باخبار التوقّف خلاف الظاهر «1» لانّ مضمون اكثر اخبار الاباحة ان المؤاخذة لا یكون قبل العلم ومن یطلق العلم علی التوقّف؟
هذا مع انّ العمدة فی الجواب انّ اخبار التوقّف لیست بحیث تقاوم ادلّة الاباحة حتی یحتاج فی الجمع إلی هذه التوجیهات البعیدة.
وامّا الجواب عن الخامس فستعرف فی الاحتیاط ان شاء اللَّه العزیز
______________________________
(1) فی بعض النسخ: خلاف الواقع
جامعة الأصول، ص: 97

[ادلّة القائلین بالاحتیاط]

وامّا ادلّة الإحتیاط فروایات.
وقبل الخوض فی الاستدلال لابدّ من تحریر محلّ النّزاع فنقول:
ذهب الاخباریون النافون للبراءة الاصلیّة إلی وجوب الإحتیاط فیما لا نصّ فیه وبعض المواضع التی تعارض فیه النّصان. والمجتهدون ذهبوا إلی استحبابه فی الموضعین. والظاهر بل الجزم انّ استحباب الإحتیاط عندهم انّما هو فیما لم یثبت اشتغال الذمّة یقیناً والّا فیجب الإحتیاط عندهم والظاهر عدم الخلاف بینهم فی ذلك.
ثمّ الظاهر انّ القائلین بالتوقّف هم القائلون بالإحتیاط فی الموضعین اعنی فیما لا نصّ فیه وفیما تعارض فیه النّصان فانّهم یتوقفون فی الفتوی ویحتاطون فی العمل فإنّ معنی التوقّف هنا علی ما یفهم من كلام البعض: الكفّ عن الحكم مطلقاً، لا الكفّ عن العمل مطلقاً وبعضهم ذهب إلی انّ معنی التوقّف هو معنی الإحتیاط وسیجی‌ء إن شاء اللَّه تعالی توضیح ذلك وما فهمته من معنی التوقّف والإحتیاط من الاخبار.
جامعة الأصول، ص: 98
إذا عرفت ذلك فاعلم انّ الاخبار الواردة فی الإحتیاط كثیرة ولكن وردت فی موارد مختلفة فلنذكر جملة منها ونشیر إلی مواردها ثمّ نأتی ببیان الحقّ فنقول:
منها: ما روی ابن جمهور اللّحساوی فی كتاب عوالی الّلالی قال روی العلامّة مرفوعاً إلی زرارة بن اعین قال: سألت ابا عبداللَّه (علیه السّلام) فقلت: جعلت فداك یأتی عنكم الخبران أو الحدیثان المتعارضان فبایّهما آخذ فقال: خذ بما اشتهر بین اصحابك ودع الشّاذّ النّادر- إلی ان قال- إذن فخذ بما فیه الحائطة لدینك واترك ما خالف الإحتیاط- الحدیث- «1».
وهذا یدلّ علی وجوب الإحتیاط فی مطلق ما تعارض فیه النّصان بعد فقد الامور المذكورة.
ومنها: صحیحة عبدالرحمن بن الحجّاج قال: سألت اباالحسن (علیه السّلام) عن رجلین اصابا صیداً وهما محرمان الجزاء علیهما «2» أم علی كلّ واحد منهما [جزاء]؟ قال: لا بل علیهما جمیعاً و یجزی عن كلّ واحد منهما الصّید قلت: ان بعض اصحابنا سألنی عن ذلك فلم ادر ما علیه فقال (علیه السّلام): إذا اصبتم مثل هذا فلم تدروا فعلیكم بالإحتیاط ... «3»
______________________________
(1) غوالی اللئالی 4/ 133 ح 229
(2) بینهما خ
(3) التهذیب 5/ 466
جامعة الأصول، ص: 99
وهذه الرّوایة تدلّ علی الإحتیاط فی بعض افراد الحكم الشرّعی إذا كان جاهلًا به ولم یمكنه السّؤال.
ویمكن ان یقال: المراد بقوله: «مثل هذا» مطلق ما كنتم جاهلین به فالمراد بالممثالة المماثلة فی الجهل لا ان یكون المراد من المثل الحكم المذكور بأن لا یعلم هل الجزاء واجب علی كل واحد منهما علیحدة أو الواجب علیهما معاً جزاء واحد.
وأورد «1» علیها بانّها لیست من قبیل ما نحن فیه لانّ باصابة الصّید علم اشتغال ذمّة كلّ من الرّجلین فیجب العلم ببراءة الذّمة ولایحصل الّا بجزاء تامّ من كلّ واحد منهما فلا یجوز التّمسّك باصالة براءة الذّمّة.
والحاصل انّه إذا قطع باشتغال الذمّة بشی‌ء ویكون لذلك الشّی‌ء فردان باحدهما تحصل البراءة قطعاً وبالاخر یشكّ فی حصول براءة الذمّة فانّه حینئذٍ لا اعلم خلافاً فی وجوب الإتیان بما یحصل به یقیناً براءة الذمّة لقولهم: لا یرفع الیقین الّا بیقین مثله «2» وغیر ذلك ونحن نجوز التمسّك بالاصل ما لم یقطع باشتغال الذمّة.
اقول: لقائل ان یقول: یجب العلم ببراءة الذّمة فی القدر المتیقّن من التّكلیف لا فی القدر المشكوك ایضاً فالقدر الّذی یحصل العلم القطعی
______________________________
(1) المورد صاحب الوافیة فیها ص 191
(2) وردت بهذا المضمون- لا بهذا اللفظ- احادیث متعددة منها ما فی التهذیب 1/ 8
جامعة الأصول، ص: 100
باشتغال الذّمّة به یجب تحصیل البراءة الیقینیّة فیه. وهنا نقول: القدر المتیقّن من التّكلیف لیس الّا جزاء تامّ من الرّجلین، والزیادة مشكوكة فلا یجب تحصیل البراءة الیقینیّة فیها.
وهذا الایراد ان كان وارداً یمكن اجراؤه فی اكثر الاخبار الواردة فی المقام كما لایخفی علی ذوی الافهام. ولكن الشأن فی وروده.
ومنها: صحیحة ابن الحجّاج ایضاً عن أبی‌ابراهیم (علیه السّلام) قال: سألته عن الرّجل یتزوّج المراءة فی عدّتها بجهالة وهی ممّن لا تحلّ له ابداً فقال: لا، امّا إذا كان بجهالة فلیتزوّجها بعدما ینقضی عدّتها وقد یعذر النّاس فی الجهالة بما هو اعظم من ذلك. فقلت بأیّ الجهالتین اعذر؟ بجهالته ان یعلم انّ ذلك محرّم علیه أم بجهالته انّها فی عدّة؟ فقال: احدی الجهالتین اهون من الاخری، الجهالة بانّ اللَّه حرّم علیه ذلك، وذلك انّه لا یقدر علی الإحتیاط معها. فقلت: هو فی الاخری معذور؟ فقال: نعم إذا انقضت عدّتها فهو معذور فی ان یتزوّجها «1».
وهذا الخبر یدلّ علی معذوریّة الجاهل ببعض جزئیّات الحكم الشّرعی، والجاهل ببعض جزئیّات موضوع الحكم الشرعی، واعذریّة الاوّل لعدم قدرته علی الإحتیاط بخلاف الثانی لانّه إذا كان عالماً بانّ التزویج فی العدّة حرام الّا انّه لا یعلم انّها فی العدّة أم لا یمكن له التفحّص
______________________________
(1) الوافیة ص 193 الكافی 5/ 427 ح 3. الاستبصار 3/ 186 ح 686. التهذیب 7/ 306 ح 1274 لكن فیه عن ابی عبداللَّه (علیه السّلام)
جامعة الأصول، ص: 101
حتی یظهر له كیفیّة الحال.
ولا یخفی عدم دلالته علی الوجوب بل غایة الامر انّها تدلّ علی الاستحباب.
وفیه ایضاً ما فیه لانّ الجاهل بالموضوع لیس الفحص له مستحباً حتی یحمل [علی] الاستحباب. فتأمّل.
ومنها: روایة سلیمان بن داود عن عبداللَّه بن وضّاح قال: كتبت إلی العبد الصالح (علیه السّلام) یتواری القرص ویقبل اللّیل ثمّ یزید اللیّل ارتفاعاً وتستتر عنّا الشّمس وترتفع فوق الجبل حمرة ویؤذن عندنا المؤذّنون فاصلّی حینئذٍ أو افطر ان كنت صائماً؟ أو انتظر حتی تذهب الحمرة التی فوق الجبل؟ فكتب الیّ: اری ان تنتظر حتی تذهب الحمرة وتأخذ بالحائطه لدینك «1».
وهذا الخبر یدلّ ایضاً علی الإحتیاط فی بعض افراد الحكم الشرعی.
وظاهر هذا الخبر الاستحباب كما لا یخفی فیمكن ان یقال: هذا مؤیّد لمذهب القائلین بأنّ الغروب استتار القرص.
والقائلون بانّه عبارة عن ذهاب الحمرة یحملون الاحتیاط هنا علی الوجوب.
ومنها: روایة شعیب الحدّاد قال: قلت لابی عبداللَّه (علیه السّلام): رجل من موالیك یقرؤك السّلام وقد اراد أن یتزوّج امراءة قد وافقته واعجبه
______________________________
(1) التهذیب 2/ 259 ح 1031. الاستبصار 1/ 264 ح 952. الوافیة 190
جامعة الأصول، ص: 102
بعض شأنها وقد كان لها زوج فطلّقها ثلاثاً علی غیر السنّة وقد كره أن یقدم علی تزویجها حتی یستأمرك فتكون انت آمره. فقال أبوعبداللَّه (علیه السّلام) «هو الفرج وأمر الفرج شدید ومنه یكون الولد ونحن نحتاط فلا یتزوّجها» «1».
وهذا الخبر یدلّ علی الاحتیاط فی فرد من افراد الحكم الشرعی ویفهم منه الاحتیاط فی مطلق الفروج. ولاریب انّ الاحتیاط فی هذا الفرد لیس بواجب لأنّ الظاهر انّ المطلّق هنا مخالف ویلزم المخالف بما الزم به نفسه من صحّة الطلاق ثلاثاً وقد تطابقت علی ذلك كلام علمائنا الاخیار وتظافرت به الاخبار «2» عن ائمّتنا الاطهار علیهم صلوات اللَّه الملك الغفّار فیحمل الاحتیاط هنا علی الاستحباب.
ومنها: صحیحة احمد بن محمّد بن أبی‌نصر عن الرّضا (علیه السّلام) فی المتمتّع بها- والحدیث طویل وموضع الحاجة منه- اجعلوهنّ من الاربع فقال له صفوان بن یحیی علی الاحتیاط قال نعم «3».
ولایخفی ما فی هذا الخبر من الاجمال. وبعض الاصحاب حمل الاحتیاط ههنا علی الخوف من المخالفین. وبالجملة لیس فیه دلالة علی
______________________________
(1) الوسائل 20/ 258. الكافی 5/ 423. التهذیب 7/ 470
(2) الوسائل 22/ 72 وفیه: الزموهم من ذلك ماالزموه انفسهم و تزوّجوهنّ فلا بأس بذلك
(3) الوسائل 21/ 20 نقلًا عن التهذیب 7/ 259 والاستبصار 3/ 148
جامعة الأصول، ص: 103
وجوب الاحتیاط.
ومنها: ما رواه العامّة والخاصّة من النبیّ صلّی اللَّه علیه وآله: «دع ما یریبك إلی ما لا یریبك» «1».
ومنها: ما رواه فی كتاب الامالی عن الرّضا (علیه السّلام) قال: قال امیرالمؤمنین (علیه السّلام) لكمیل بن زیاد: «یا كمیل، اخوك دینك فاحتط لدینك» «2».
ومنها: ما روی من قولهم (علیهم السّلام) لیس بناكب عن الصّراط من سلك طریق الاحتیاط «3».
ومنها: ما رواه الشهید (قدّس سرّه) عن الصّادق (علیه السّلام)- والحدیث طویل وموضع الحاجة- «خذ بالاحتیاط (لدینك و) «4» فی جمیع امورك ما تجد إلیه سبیلًا» «5».
وهذه الاخبار الاربعة تدلّ علی رجحان مطلق الاحتیاط.
______________________________
(1) ارسله الشهید فی الذكری و حكاه عن الفریقین. كذا فی الفرائد للشیخ الانصاری ص 347 طبع جماعة المدرسین. غوالی اللئالی 3/ 330 الوسائل 27/ 173 و 167 نقلًا عن تفسیر جوامع الجامع
(2) الوسائل 27/ 167 نقلًا عن امالی الطوسی 1/ 109
(3) جامع احادیث الشیعة 1/ 90
(4) ما بین () لیس فی الوسائل
(5) الوسائل 27/ 172
جامعة الأصول، ص: 104
إذا عرفت الاخبار الواردة فی الاحتیاط فاعلم انّ القول بعدم مشروعیّة الاحتیاط كلام بعید عن الصّواب ولاشكّ فی رجحانه بمقتضی الاخبار المذكورة وانّما الخلاف بین الاخباریین والمجتهدین القائلین بالبراءة الاصلیّة فی وجوبه وعدمه. فالقائلون بالبراءة الاصلیّة ینفون الوجوب قال المحقّق رحمه اللَّه تعالی: العمل بالاحتیاط غیر لازم وصار اخرون إلی وجوبه. وقال آخرون مع اشتغال الذّمة یكون العمل بالاحتیاط واجباً ومع عدمه لا یجب مثال ذلك إذا ولغ الكلب فی الاناء نجس واختلفوا هل یطهر بغسلة واحدة أم لابدّ من سبع؟ وفیما عدا الولوغ هل یطهر بغسلة أم لابدّ من ثلاث؟
احتجّ القائلون بالاحتیاط بقوله (علیه السّلام): «دع ما یریبك إلی ما لا یریبك» «1» وبأنّ الثابت اشتغال الذّمّة یقیناً فیجب ان لا یحكم ببرائتها الّا بیقین ولایكون هذا الّا مع الاحتیاط والجواب عن الحدیث ان نقول: هو خبر واحد لا یعمل بمثله فی مسائل الأصول. سلّمناه لكن الزام المكلّف بالاثقل مظّنة الرّیبة لانّه الزام مشقّة لم یدلّ الشرع علیها فیجب اطراحها بموجب الخبر والجواب عن الثانی ان نقول: البراءة الاصلیّة مع عدم دلالة النّاقله حجّة وإذا كان التقدیر تقدیر عدم الدلالة الشّرعیّة علی الزّیادة فی المثال
______________________________
(1) الوسائل 27/ 167 نقلًا عن تفسیر جوامع الجامع للطبرسی
جامعة الأصول، ص: 105
المذكور كان العمل بالاصل اولی، وحینئذٍ لا نسلّم اشتغالها مطلقاً بل لا نسلّم اشتغالها الّا بما حصل الاتفاق علیه أو اشتغالها بأحد الامرین.
ویمكن ان یقال قد اجمعنا علی الحكم بنجاسة الاناء واختلفنا فیما به یطهر فیجب ان نأخذ بما حصل الاجماع علیه فی الطّهارة لیزول ما اجمعنا علیه من النّجاسة بما اجمعنا علیه من الحكم بالطّهارة. انتهی كلامه رفع مقامه «1».
والاخباریّون النّافون للبراءة الاصلیّة علی وجوب الاحتیاط فی العمل والتوقّف فی الفتوی وغیر خفیّ انّه إذا بنی‌الامر علی وجوب الاحتیاط یلزم طرح الآیات والاخبار الدّالة علی البراءة الاصلیّة لعدم امكان حملها علی معنی آخر فالحقّ حمل اخبار الاحتیاط علی الاستحباب كما هو رأی معظم الاصولیین من الاصحاب. وقد عرفت ظهور اكثر اخبار الاحتیاط فی هذا الحمل.
فإن قیل: اخبار الاحتیاط معاضدة باخبار التوقّف لانّ التوقّف لیس الّا الوقف عن الحكم القطعی والاحتیاط فی العمل كما هو رأی الاخباریین.
قلت: هذا لا یضرّنا، لانّ الاخبار الدّالة علی البراءة الاصلیّة إذا لو حظت مع جمیع اخبار التوقّف والاحتیاط یكون الرّجحان ایضاً فی طرفها لموافقتها مع القرآن وكون مقتضاها مجمعاً علیه كما عرفت من نقل
______________________________
(1) المعارج ص 216 طبع 1403 ق
جامعة الأصول، ص: 106
بعضهم الاجماع كالصّدوق وغیره ولموافقتها للادلّة العقلیّة وقال بعض الاصحاب: انّ اخبار الاحتیاط معارضة لاخبار التوقّف لانّ التوقّف عبارة عن ترك الامر المحتمل الحرمة وحكم آخر من الاحكام الخمسة، والاحتیاط عبارة عن ارتكاب الامر المحتمل للوجوب وحكم آخر ما عدا التّحریم كما هو ظاهر موارد التوقّف والاحتیاط، ومن توهّم انّ التوقّف هو الاحتیاط فقد سهی وغفل- انتهی كلامه- «1» اقول: لابدّ لنا من تحقیق معنی التوقّف والاحتیاط حتی یظهر صحّة هذا الكلام وفساده فنقول: لاشكّ انّ التوقّف لغة هو الكفّ والترك مطلقاً ولكن ینبغی التأمّل فی انّه هنا عبارة عن الكفّ عن الفتوی والحكم، أو عنهما وعن العمل ایضاً مطلقاً، أو منحصر بالكفّ عن الفعل المحتمل للحرمة وحكم اخر من الاحكام الخمسة كما افاده هذا البعض. وكذا ینبغی التأمّل فی انّ الاحتیاط منحصر فیما ذكره رحمه اللَّه أم هو مختلف فی المواضع والموارد، فربّ موضع یكون الاحتیاط فیه الفعل، وربّ موضع یكون الاحتیاط فیه الترك، وربّ موضع یكون الاحتیاط فیه ارتكاب افعال متعدّدة كما ذكره اكثر القوم.
ولمّا احال هذا القائل بیان الفرق المذكور إلی موارد التوقّف والاحتیاط لابدّ من التأمّل فی اخبارهما اوّلًا والاشارة إلی الحقّ ثانیاً.
فنقول: الاخبار التی استدلّوا بها علی التوّقف علی ما ذكرناها جمیعاً
______________________________
(1) الوافیة ص 192
جامعة الأصول، ص: 107
كان جملة منها دالّة علی عدم القول بغیر علم وردّ علمه إلی الائمّة (علیهم السّلام) وكان العمل فیها مسكوتاً عنه فلا نفهم منها الّا التوقّف فی الفتوی و الحكم مع انّه لایفهم منها ان الردّ المذكور هو التوقّف، لعدم اطلاق التوقّف علیه فیها وروایة واحدة منها دالّة علی ترك العمل إذا كان الفعل دائراً بین الحرمة وغیرها من الاحكام، واطلق فیها التوقّف علی هذا الترك كما قال القائل المذكور، وهی روایة عمر بن حنظلة حیث قال: حلال بیّن وحرام بیّن وشبهات بین ذلك- إلی ان قال- فإذا كان كذلك فارجه حتی تلقی امامك فإنّ الوقوف عند الشبهة خیر من الاقتحام فی الهلكات «1» فإنّها تدلّ علی انّ الشبهة الدّائرة بین الحلال (كذا) والحرمة یجب تركها حتی یلقی الامام واطلق فیها علی هذا الترك التوقّف حیث قال (علیه السّلام): فإنّ الوقوف- إلی آخره- وبعض منها یدلّ علی الترك إذا كان الفعل دائرا بین ان یكون مأموراً به أو منهیّاً عنه الّا انّه لم یطلق فیه التوقّف علی الترك المذكور كروایة سماعة بن مهران المذكورة فی الاحتجاج حیث قال (علیه السّلام) بعد قول الرّاوی: یرد علینا حدیثان واحد یأمرنا بالاخذ به والاخر ینهانا عنه: لا تعمل بواحد منهما «2»
______________________________
(1) الوسائل 27/ 157. الكافی 1/ 67
(2) الوسائل 27/ 122 نقلًا عن الاحتجاج 357.
جامعة الأصول، ص: 108
فانّها تدلّ علی ترك الفعل إذا كان دائراً بین ان یكون مأموراً به أو منهیّاً عنه الّا انّه لم یطلق فیها التوقّف علی الترك المذكور فلا یعلم منها انّ الترك المذكور علی سبیل الاحتیاط أو التوقّف أو امر آخر وبعض منها اطلق فیه التوقّف علی ترك مطلق الشبهة لا علی الشبهة الدائرة بین الحرمة وما سواها من الاحكام كروایة جمیل بن دراج حیث قال (علیه السّلام): الوقوف عند الشبهة خیر من الاقتحام فی الهلكة- إلی ان فرّع علی ذلك قوله (علیه السّلام)- فما وافق كتاب اللَّه فخذوه وما خالف كتاب اللَّه فدعوه «1».
ویمكن ان یقال: الظاهر انّ الشبهة فیها هی الشبهة الدائرة بین الحرمة وشی‌ء آخر من الاحكام بقرینة قوله (علیه السّلام): «فدعوه» فظهر انّ الاخبار الّتی استدلّوا بها علی التوقّف لیس فیها ما یدلّ علی انّ التوقّف هو ترك الامر المحتمل للحرمة وشی‌ء آخر من الاحكام، الّا خبر واحد أو اثنین بناء علی العنایة المذكورة فالاخبار الّتی وقع فیها التّصریح بلفظ التوقّف یفهم منها انّ التوقّف هو ترك الامر المحتمل للحرمة وشی‌ء آخر سوی الحرمة كما قال القائل المذكور وهو انسب بمعناه اللغوی ایضاً الّا انّ ذلك لا یثبت مطلوبه كما ستعرف.
وامّا اخبار الاحتیاط فروایة زرارة بن اعین الّتی رواها ابن جمهور
______________________________
(1) الوسائل 27/ 119
جامعة الأصول، ص: 109
اللحساوی فی العوالی «1» عن العلّامة مرفوعاً فلا یدلّ الّا علی الاحتیاط فیما تعارض فیه النّصان. وما تعارض فیه النّصان اعمّ من ان یكون أحدهما دالًّا علی الوجوب والاخر علی شی‌ء آخر من الأحكام، أو أحدهما علی الحرمة والاخر علی شی‌ء آخر غیرها من الأحكام، ولا شكّ انّ الامر إذا كان دائراً بین الحرمة وشی‌ء آخر من الاحكام ما سوی الوجوب یكون الاحتیاط فی الترك، بل ان احتمل الوجوب ایضاً كما ستعرف ان شاء اللَّه العزیز، فلا یدلّ هذا الخبر علی انّ الاحتیاط هو فعل الامر المحتمل للوجوب وشی‌ء آخر سوی الحرمة كما افاده هذا القائل.
وامّا صحیحة عبدالرحمن بن الحجّاج «2» فتدلّ علی انّ الفعل إذا كان مردّداً بین الوجوب وغیره سوی الحرمة بل الكراهة ایضاً فالاحتیاط فیه بالفعل فهی تدلّ علی مطلوب القائل المذكور.
وامّا صحیحته الاخری «3» فاطلق الاحتیاط فیها علی الفحص فی بعض جزئیّات موضوع الحكم الشرعی إذا كان جاهلًا به. فهی ایضاً لا تدلّ علی مطلوب القائل المذكور و امّا روایة عبداللَّه بن وضّاح فیفهم منها انّ الفعل إذا كان دائراً بین الاستحباب والحرمة فالاحتیاط فیه بالترك، لانّ الرّاوی سأل المعصوم (علیه السّلام)
______________________________
(1) غوالی اللئالی 4/ 133
(2) التهذیب 5/ 466
(3) الكافی 5/ 427
جامعة الأصول، ص: 110
عن اداء الصّلاة وقت استتار القرص أو تأخیرها إلی ذهاب الحرمة، فامره بترك الصلاة عند الاستتار وتأخیرها إلی ذهاب الحمرة إحتیاطاً. ولا شكّ ان الصّلاة عند الاستتار یحتمل ان تكون مستحبّاً إذا كان ذلك وقتاً لها لوقوعها حینئذٍ فی اوّل الوقت ویحتمل الحرمة وترك الواجب إذا لم یكن عند الاستتار وقتاً لها فهذه الرّوایة ایضاً لا تدلّ علی مطلوب القائل المذكور.
وامّا روایة شعیب الحدّاد «1»، فیفهم منها ان الفعل إذا كان دائراً بین الحرمة والمباح أو الاستحباب فالإحتیاط فیه بالترك فهی ایضاً لا تدلّ علی مطلوبه مطلقاً.
وامّا صحیحة احمد بن محمّد بن أبی‌نصر «2»، فقد اشرنا إلی انّها مجملة، وبعض الاصحاب حمل الإحتیاط فیها علی الخوف من المخالفین.
وامّا الاخبار الاربعة الباقیة فتدلّ علی رجحان الإحتیاط ولایفهم منها مورده بل الحدیث النبوی (صلّی اللَّه علیه و آله) اعنی قوله (صلّی اللَّه علیه و آله): «دع ما یریبك إلی مالا یریبك» «3» یفهم منه انّ الإحتیاط یكون بالفعل والترك بل بكلّ ما لاریب فیه فإنّه قد یكون بالفعل وقد یكون بالترك وقد یكون بالجمع بین الفعلین
______________________________
(1) التهذیب 7/ 470. الوسائل 20/ 258
(2) الوسائل 21/ 20
(3) الوسائل 27/ 173
جامعة الأصول، ص: 111
أو الافعال المتعدّدة فیفهم من هذا الخبر بعمومه ومن الاخبار الاخر لورودها فی موارد مختلفة ان موارد الإحتیاط مختلفة ولیس عبارة عن ارتكاب الامر المحتمل للوجوب وشی‌ء آخر سوی الحرمة كما ذكره هذا القائل. وستقرع سمعك تفصیل موارده إن شاء اللَّه تعالی.
فحینئذٍ نقول: الحقّ انّ التوقّف كما یستنبط من الاخبار هو الّذی ذكره هذا القائل اعنی ترك الامر المحتمل للحرمة وغیرها من الاحكام، فیكون هو فرداً من الإحتیاط لما عرفت من انّه یفهم اطلاق الإحتیاط علی هذا الفرد وعلی افراد اخر، فیكون الإحتیاط اعمّ مطلقاً من التوقّف. فهذا القائل ما ذكره لمعنی التوقّف صحیح ولكن ما ذكره لمعنی الإحتیاط غیر صحیح وبذلك یظهر انّ ما ذكره من انّ معنی التوقّف غیر معنی الإحتیاط غیر صحیح لانّ التوقّف حینئذٍ فرد من افراد الإحتیاط ولیس هو امراً مبائناً له. وحمل الغیریة علی عدم كونه هو بعینه غیر مفید له لانّ غرضه اثبات انّ اخبار الإحتیاط معارضة لاخبار التوقّف، وكون التوقّف اخصّ منه غیر مفید لذلك بل یصیر اخبار الإحتیاط حینئذٍ معاضدة لاخبار التوقّف كما ذكره بعض العلماء لانّ التوقّف حینئذٍ لیس إلّا بعضاً من افراد الإحتیاط.
وبما قرّرنا یظهر لك ایضاً ان تخصیص التوقّف بالتوقّف فی الفتوی، والإحتیاط بالإحتیاط فی العمل، كما قال بعض الاصحاب خلاف مفهوم التوقّف من اللغة والاخبار. فالحقّ فی بیان معنی التوقّف والاحتیاط ما
جامعة الأصول، ص: 112
ذكرناه، فحینئذٍ یكون اخبار التوقّف معاضدة لاخبار الإحتیاط فالحقّ فی الجواب حینئذٍ ما ذكرناه من انّ الترجیح لاخبار البراءة بالنسبة الیهما جمیعاً لمعاضدتها بالآیات القرآنیّة وموافقتها لاجماع الفرقة المحقّة الاثنی عشریّة وتأییدها بالادلّة العقلیّة الیقینیّة فیجب حمل اخبار التوقّف والإحتیاط جمیعاً علی الاستحباب. وقد عرفت انّ اكثر اخبار الإحتیاط ظاهر فی الاستحباب بل بعضها متعیّن الحمل علیه وقد عرفت وجوهاً اخر ایضاً من الایرادات علی اخبار الإحتیاط.
وأورد علیها ایضاً بانّه یمكن حمل اخبار الإحتیاط علی صورة امكان الوصول إلی المعصوم (علیه السّلام) كالتمسّك بالاصل فی هذا الزّمان قبل الفحص والتفتیش عن النصوص والادلّة وهو غیر جائز باجماع الفرقة. فتأمّل وغیر خفیّ انّ اخبار البراءة الاصلیّة معاضدة باخبار التوسعة والتخییر فیما تعارض فیه النّصان لانّ التوسعة فی معنی الاباحة والبراءة كما لا یخفی.
وقد ذكروا وجوهاً للاخذ بالإحتیاط لا یفید شی‌ء منها ما یطمئنّ به النّفس وقد قال بعض علمائنا «1» الاخباریین: هل یجوّز أحد ان یقف عبد من عباد اللَّه فیقال له بما كنت تعمل فی الاحكام الشرعیّة فیقول كنت اعمل
______________________________
(1) قیل هو السیّد نعمة اللَّه الجزائری (قدّس سرّه). و راجع الرسائل الاصولیّة للوحید البهبهانی 377
جامعة الأصول، ص: 113
بقول المعصوم واقتفی اثره فی ما ثبت من المعلوم فإنّ اشتبه علیّ شی‌ء عملت بالإحتیاط فزلّ قدم هذا العبد عن الصّراط ویقابل بالاهانة ویؤمر به إلی النّار ویحرم مرافقة الاخیار هیهات هیهات ان یكون اهل التّسامح والتّساهل فی الدّین یومئذٍ فی الجنّة خالدین واهل الإحتیاط فی النّار معذّبین. انتهی كلامه زید مقامه.
ولایخفی انّه لا كلام للمجتهدین فی رجحان الاخذ بالإحتیاط وسلوك سالكه مسلك النّجاة ولذا اطبقوا علی استحبابه، انّما كلامهم فی انّ وجوبه مع دلالة الادلّة الكثیرة علی البراءة غیر ثابت فهذا الكلام لا یدلّ علی بطلان مذهب المجتهدین بل علی حسن الإحتیاط ولاریب فی حسنه ونحن نقول به.
إذا عرفت ذلك فلنذكر الآن تفصیل موارد الإحتیاط لیظهر جلیّة الحال فنقول: الإحتیاط علی ما یقتضیه العقل امّا ان یكون فی نفس الحكم الشرعی أو فی افراد موضوعه، وكلّ منهما امّا ان یكون فیما لا نصّ فیه أو ما تعارض فیه النّصان، فیصیر الاقسام الاربعة وكلّ من الاقسام الاربعة امّا ان یكون الإحتیاط فیه بالفعل أو الترك أو الجمع بین الافراد المشكوك فیها، وحاصل ضرب الاربعة فی الثلاثة اثنا عشر فیصیر الاقسام المتصوّرة اثنا عشر قسماً.
الاوّل: ان یكون فیما لا نصّ فیه فی نفس الحكم الشرعی والإحتیاط فیه بالفعل، كما إذا كان الفعل الّذی لم یرد به نصّ دائراً عند الفقیه بین
جامعة الأصول، ص: 114
الوجوب والاحكام الاخر سوی التحریم، فالإحتیاط فی الفعل. فالاصولیّون علی استحباب الفعل بناء علی اثباتهم البراءة الاصلیّة و الاخباریّون علی وجوبه بناء علی نفیهم البراءة الاصلیّة.
الثانی: ان یكون فیما لا نصّ فیه فی الحكم الشرعی ایضاً ویكون الإحتیاط فیه بالترك، كما إذا كان ما لانصّ فیه عند الفقیه دائراً بین الحرمة وغیرها من الاحكام سواء كان الوجوب أو غیره. كذا قال جمع من الاصحاب مستنداً بأنّ ذلك هو المستفاد من الاخبار وهو كذلك لدلالة روایة ابن حنظلة علی ذلك حیث قال (علیه السّلام): فإذا كان كذلك فارجه حتی تلقی امامك «1» فإنّ ارجاء الفعل هو تأخیره وتركه. ویدلّ علیه ایضاً موثقة سماعة المتقدّمة عن أبی‌عبداللَّه (علیه السّلام) حیث قال: سألته عن رجل اختلف علیه رجلان من اهل دینه فی امر كلاهما یرویه أحدهما یأمر بأخذه والاخر ینهاه عنه كیف یصنع؟ قال: «یرجئه حتّی یلقی من یخبره ...» «2»
ولایخفی ان هذین الخبرین واردان فیما تعارض فیه النّصّان والظاهر انّ الاستدلال بهما علی تغلیب الحرمة فیما لا نصّ فیه مبنیّ علی عدم القول بالفصل
______________________________
(1) الكافی 1/ 67
(2) الوسائل 27/ 108. الكافی 1/ 66
جامعة الأصول، ص: 115
وقد استدلّ بعض مشایخنا المعاصرین «1» علی ذلك بموثقة زرارة فی اناس [من اصحابنا] حجّوا بامرأة معهم فقدموا إلی الوقت وهی لا تصلّی وجهلوا انّ مثلها ینبغی ان یحرم فمضوا بها كما هی حتی قدموا مكّة وهی طامث حلال. فسألوا النّاس فقالوا: تخرج إلی بعض المواقیت فتحرم منه. وكانت إذا فعلت لم تدرك الحجّ. فسألوا ابا جعفر (علیه السّلام) فقال: «یحرم من مكانها قد علم اللَّه نیّتها» «2» ووجّه الدّلالة علی ما قال انّها تركت واجباً لاحتمال الحرمة عندها وقرّرها المعصوم (علیه السّلام) «3» ولایخفی ما فی هذا الاستدلال فإنّ هذا الخبر لا یدلّ مطلقاً علی انّ الفعل المذكور كان عندها دائراً بین الوجوب والحرمة وتركها لاحتمال الحرمه، حتی یمكن الاستدلال بها، بل یدلّ علی انّ ترك الفعل انّما كان باعتبار الجهل، وهو لا یدلّ علی انّ وجوبه كان محتملًا عندهم.
وقد استدلّ بعض علی ذلك بأنّ دفع الضّرر اهمّ من جلب المنفعة وهو ممّا ینبغی ان لایلتفت إلیه، لانّ الضّرر یوجد فی ترك الواجب ایضاً ففی فعله دفع للضّرر وجلب المنفعة. فالعمدة فی الاستدلال ما ذكرنا من الخبرین فتأمّل.
______________________________
(1) هو صاحب الحدائق فیه 1/ 70
(2) الحدائق 1/ 70. الوسائل باب 14 من ابواب المواقیت
(3) الحدائق 1/ 70
جامعة الأصول، ص: 116
الثالث: ان یكون فیما لا نصّ فیه فی نفس الحكم الشرعی والاحتیاط بالجمع بین الافراد المشكوك فیها، كما إذا كان الفعل الّذی لم یرد به نصّ محتملًا للوجوب وغیره سوی الحرمة عند الفقیه ومع ذلك كان له افراد متعدّدة وتردّد الفقیه فی افراده. فالإحتیاط فیه الجمع بین الافراد المشكوك فیها امّا عند الاصولییّن فعلی سبیل الاستحباب وامّا عند الاخبارییّن فعلی سبیل الوجوب.
وعلی ما قرّرناه من تحریر محلّ النّزاع یظهر انّه إذا اشتغلت ذمّة المكلّف یقیناً بواجب ولكن تردّد بین فردین أو ازید من افراد ذلك الواجب یجب علیه الاتیان بالجمیع عند المجتهدین. فهذا الإحتیاط عندهم ایضاً واجب. ومنه من اشتغلت ذمّته بفریضة من الیومیّة مع جهلها فی الخمس مثلًا فإنّه یجب علیه الاتیان بالخمس لانّ تحصیل البراءة الیقینیّة غیر ممكن بدون ذلك.
الرّابع: ان یكون فیما تعارض فیه النّصان فی الحكم الشّرعی ویكون الإحتیاط فیه بالفعل «1» كما إذا كان ما تعارض فیه النّصان دائراً عند الفقیه بین الوجوب وغیره من الاحكام سوی الحرمة فالإحتیاط حینئذٍ بالفعل ایضاً.
الخامس: ان یكون فیما تعارض فیه النّصان فی الحكم الشرعی ویكون الإحتیاط بالترك كما إذا كان ما تعارض فیه النّصان دائر بین الحرمة
______________________________
(1) بفعل واحد. خ.
جامعة الأصول، ص: 117
وغیرها من الأحكام. والدّلیل كما عرفت. بل الدّلیل هنا اظهر لورود الخبرین فی هذا الشقّ.
السادس: ان یكون ما تعارض فیه النّصان فی الحكم الشرعی ویكون الإحتیاط بالجمع بین الافراد المشكوك فیها كما إذا كان ما تعارض فیه النّصان محتملًا للوجوب وغیره سوی الحرمة ومع ذلك كان له افراد متعدّدة وتردّد الفقیه فی الافراد.
السابع: ان یكون فیما لا نصّ فیه فی موضوع الحكم الشرعی ویكون الإحتیاط فیه بالفعل وذلك كما إذا علم أصل حكم الفعل وكان هو الوجوب ولكن حصل الشكّ فی اندراج بعض الافراد تحت الفعل المذكور ولم یرد به نصّ من الشریعة. ومن هذا القبیل صلاة الجمعة فی زمان الغیبة علی ما ادّعی بعض الاصحاب النافین للوجوب العینی من انّا نعلم صلاة الجمعة واجبة فی كلّ وقت وزمان ولكن الصّلاة الّتی تفعل فی زمان الغیبة یمكن ان لایصدق علیها عنوان صلاة الجمعة لاحتمال ان یكون امامة المعصوم داخلة فی حقیقتها أو من الشّروط الّتی لا یصدق علیها العنوان المذكور بدونها. وقد بیّنا فساد هذا الكلام فی بعض رسائلنا.
الثامن: ان یكون فیما لا نصّ فیه فی موضوع الحكم الشرعی ویكون الإحتیاط بالتّرك. وذلك كما إذا علم أصل الحكم وكان التحریم ولكن حصل الشكّ فی اندراج بعض الجزئیّات والافراد تحته مع عدم ورود النّص فی هذا البعض. ومن هذا القبیل الشكّ فی اندراج بعض الاصوات
جامعة الأصول، ص: 118
تحت الغناء المعلوم تحریمه. ومنه الشكّ فی اندراج الخزف تحت غیر الارض المعلوم تحریم السّجدة علیه.
التّاسع: ان یكون فیما لانصّ فیه فی موضوع الحكم الشّرعی ویكون الاحتیاط بالجمع بین الافراد المشكوك فیها كما إذا علم انّ الفعل الفلانی حكمه كذا وكان هو الوجوب ولم یرد نصّ بأنّ هذا الامر داخل تحت الفعل المذكور أم لا وحصل الشكّ فی ذلك ووقع التّردّد فی افراد هذا الامر أو وقع الشكّ اوّلًا فی انّ عدّة من الافراد «1» داخلة تحت الفعل المذكور أم لا فالإحتیاط فی الصّورتین الجمع بین الافراد المشكوك فیها.
العاشر والحادی عشر والثانی عشر: كالسّابع والثّامن والتّاسع الّا انّه هنا یكون فیما تعارض فیه النّصان وهناك كان فیما لا نصّ فیه.
وینبغی التأمّل فی انّه لبعض هذه الاقسام هل یوجد امثلة من المسائل الشرعیّة أم لا.
ودلیل القائلین بالحرمة فیما لا نصّ فیه انّ الفعل تصرّف فی ملك اللَّه تعالی بدون إذنه والتّصرّف فی ملك الغیر بدون إذنه قبیح.
واجیب بأنّ الإذن معلوم عقلًا حیث لا ضرر علی المالك كالاستظلال بحائط الغیر.
وغیر خفی انّ الآیات والاخبار الدّالة علی الاباحة والحلّ تدلّ علی الاذن الشرعی ایضاً ولم نعثر لهم علی دلیل آخر. واللَّه یعلم.
______________________________
(1) الافعال. خ.
جامعة الأصول، ص: 119
الفصل الثانی فی أصل البراءة بالمعنی الثّانی أعنی أصالة عدم الوجوب والاستحباب‌

الفصل الثانی فی أصل البراءة بالمعنی الثّانی أعنی أصالة عدم الوجوب والاستحباب‌

اشارة

اعلم انّ الحقّ الحقیق بالاتّباع انّ الأصل عدم الوجوب والاستحباب حتی دلّ الدّلیل علی ثبوتهما فإذا لم یثبتا جزماً من قبل الشریعة یمكن نفیهما باصل البراءة وهو مذهب جمیع المجتهدین. والظاهر انّ الاخباریین ایضاً هنا قائلون بأنّ الأصل نفی الوجوب والاستحباب فهم لا ینكرون أصل البراءة بالمعنی الثانی بل انّهم انّما ینكرون أصل البراءة بالمعنی الاوّل وقد صرّح بذلك بعض منهم ولكن الظاهر انّ بعضاً منهم یذهبون هنا ایضاً إلی وجوب الإحتیاط اعنی الاتیان بالفعل.
جامعة الأصول، ص: 120
لنا بعض الآیات المذكورة فی أصالة البراءة بالمعنی الاوّل فانّها قسمان:
قسم منها لا یدلّ علی أصالة البراءة بهذا المعنی كقوله تعالی: خَلَقَ لَكُمْ ما فِی الْأَرْضِ ... «1».
وقوله تعالی: إِنَّما حَرَّمَ عَلَیْكُمُ ... «2».
وقوله تعالی یا أَیُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِی الْأَرْضِ ... «3».
وقوله تعالی: لا أَجِدُ فِی ما أُوحِیَ ... «4».
وقوله تعالی: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ ... «5».
وبالجملة ما یشبه ذلك لا یدلّ علی أصالة البراءة بهذا المعنی.
وقسم منها تدلّ علی أصالة البراءة بهذا المعنی كقوله تعالی: وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِینَ ... «6».
وقوله تعالی: لا یُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها «7».
______________________________
(1) البقرة: 29
(2) النحل: 115
(3) البقرة: 168
(4) الانعام: 145
(5) الانعام: 151
(6) الاسراء: 15
(7) الطلاق: 7
جامعة الأصول، ص: 121
وقوله تعالی: ما كانَ اللَّهُ لِیُضِلَّ قَوْماً ... «1».
وقوله: لِیَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَیِّنَةٍ ... «2».
وغیر ذلك ممّا هو فی هذا المعنی.
ولنا ایضاً جمیع الاخبار المذكورة.
سوی خبر عبداللَّه بن سنان عن أبی‌عبداللَّه (علیه السّلام) وهو قوله (علیه السّلام): «كلّ شی‌ء یكون فیه حرام وحلال الی آخره» «3».
فإنّ دلالته منحصرة فی أصالة البراءة بالمعنی الاوّل كما لا یخفی.
وكذا قوله (علیه السّلام): «كلّ شی‌ء مطلق حتی یرد فیه نهی» «4».
فهو ایضاً لا یدلّ علی أصالة البراءة بهذا المعنی.
ولنا ایضاً الادلّة العقلیّة المذكورة.
وامّا دعوی الاجماع فالمنقول من الصّدوق «5» انّما هو فی المعنی الاوّل وامّا دعوی المحقّق والعلامّة كما نقله بعض فلم یكن كلامهما حاضراً عندی وقت التألیف حتی احقّق الحال.
ثمّ انّ المجتهدین لمّا ذهبوا إلی استحباب الإحتیاط فیما لا نصّ فیه
______________________________
(1) التوبة: 115
(2) الانفال: 42
(3) الكافی 5/ 313
(4) الفقیه 1/ 371
(5) الاعتقادات ص 107
جامعة الأصول، ص: 122
وفیما تعارض فیه النّصّان باعتبار الجمع بین الادلّة، لایمكن نفی الاستحباب بهذه الجهة وان امكن باعتبار الأصل، فتأمّل.

[أدلة القول بوجوب الاحتیاط]

وامّا ادلّة القول بوجوب الإحتیاط فهی الاخبار الدّالة علی مطلق الإحتیاط أو الدّالة علی الإحتیاط بالفعل فی صورة الدّوران بین الفعل والترك وقد عرفتها جمیعاً.
ولایدلّ اخبار التوقّف علی مطلوبهم لانّك قد عرفت انّ التوقّف المستفاد من الاخبار هو الترك إذا كان الفعل دائراً بین الحرمة وغیره ومانحن فیه لیس كذلك بل هو مختصّ بالمعنی الاوّل.
ثمّ اعلم ان هذین الأصلین اعنی أصل البراءة بالمعنی الاوّل والثانی انّما كانا من قسمی أصل البراءة من حقوق اللَّه.
وامّا أصل البراءة من حقوق النّاس فیدلّ علیه كثیر من الآیات والاخبار المتقدّمة.
والظاهر انّ الأصل بهذا المعنی لم ینكره أحد من الاصحاب والدلیل الّذی نذكره ان شاء اللَّه لاصالة العدم فی الممكن یدلّ ایضاً
جامعة الأصول، ص: 123
علی أصل البراءة من حقوق اللَّه بقسمیه ومن حقوق النّاس لانّ التكلیف فرد من الممكن فإذا بینّا انّ الأصل فی مطلق الممكن العدم یثبت ذلك فی التكلیف ایضاً.

[شرط اجراء اصل البراءة]

واعلم ایضاً انّ اجراء أصل البراءة بجمیع اقسامه مشروط بشرطین:
احدهما: انّه یجب ان یكون بعداستفراغ الوسع فی تفحّص الادلّة والامارات وبذل الجهد فی تجسّس النّصوص من الاخبار والآیات فإذا استفرغ المجتهد وسعه وبذل جهده ومع ذلك لم یجد ما یدلّ علی الحكم یمكن له اجراء الأصل.
قال المحقّق طاب ثراه: اعلم انّ الأصل خلّوا الذمّة من الشواغل الشرعیّة فإذا ادّعی مدّع حكماً شرعیّاً جاز لخصمه ان یتمسّك بالبراءة الاصلیّة فیقول: لو كان ذلك الحكم ثابتاً لكان علیه دلالة شرعیّة لكن لیس كذلك فیجب نفیه ولایتمّ هذا الدّلیل الا ببیان مقدّمتین:
الاوّلی: انّه لا دلالة علیه بأن یضبط طرق الاستدلالات الشرعیّة ویبیّن عدم دلالتها علیه.
جامعة الأصول، ص: 124
الثانیة: ان یبیّن انّه لو كان هذا الحكم ثابتاً لدلّت علیه احدی تلك الدّلائل، لانّه لو لم یكن علیه دلالة لزم التكلیف بما لاطریق للمكلّف إلی العلم به، وهو تكلیف بما لایطاق، ولو كان علیه دلالة غیر تلك الادلّة لما كانت ادلّة الشرع منحصرة فیها لكن بینّا انحصار الاحكام فی تلك الطرق وعند هذا یتمّ كون ذلك دلیلًا علی نفی الحكم. انتهی كلامه رفع مقامه «1».
ولایخفی انّ بعد التتبّع الصّادق واستفراغ الوسع لا یحكم بعدم الحكم فی نفس الامر والواقع بل یحكم بعدم ثبوت التكلیف فی حقّنا. وذلك لانّ مذهبنا معاشر الامامیّة انّ جمیع الاحكام المتعلّقة بالشریعة موجود عند ائمّتنا (علیهم السّلام) ولا توجد واقعة من الوقائع الّا وحكمها ثابت عندهم (علیهم السّلام) حتی ارش الخدش ولكنّهم صلوات اللَّه علیهم لم یتمكّنوا من اظهار الجمیع للتقیّة وغیرها. فحینئذٍ إذا تتبّعنا وتفحصنا ولم نجد، لیلًا لا یمكن لنا الحكم یقیناً بعدم الحكم فی الواقع لاحتمال وجوده عندهم (علیهم السّلام) ولكنّهم (علیهم السّلام) لم یتمكّنوا من اظهاره. نعم یمكن الحكم بعدم ثبوت التكلیف فی حقّنا لما ذكرنا من الادلّة.
وإذا ظهر علی الفقیه بعد التتبّع دلیل أو امارة یجب علیه التثبّت والتأمّل.
قال بعض الفضلاء: ویفرّع علی هذا ان اجراء أصل البراءة من شغل ذمّة حقوق النّاس مشروط بعدم عروض ما یناسب شغل الذمّة، مثل ان
______________________________
(1) معارج الاصول ص 212
جامعة الأصول، ص: 125
یكون اجراء الأصل مستلزماً لضرر المسلم مثلًا إذا حبس شاة فمات ولدها أو امسك رجلًا فهرب دابّته فهلكت أو فتح قفساً لطائر فطار الطائر، فحینئذٍ لایمكن علی سبیل القطع اجراء الأصل فی نفی شغل الذمّة من ولد الشّاة والدّابة والطائر، ولایصّح فیها التمسّك ببراءة الذمّة، بل ینبغی للمفتی التوقّف عن الافتاء حینئذٍ، ولصاحب الواقعة الصّلح، إذا لم یكن منصوصاً بنصٍّ خاصّ او عامّ، لاحتمال اندراج مثل هذه الصّورة فی قوله (علیه السّلام): «لاضرر ولا ضرار فی الاسلام» «1» وفیما یدلّ علی حكم من اتلف مالًا لغیره، «2» إذ نفی الضرر غیر محمول علی نفی حقیقته لانّه غیر منفّی بل الظاهر انّ المراد به نفی الضرر من غیر جیران بحسب الشرع والحاصل فی مثل هذه الصورة لا یحصل العلم بل ولا الظنّ بأنّ الواقعة غیر منصوصة، وقد عرفت انّ شرط التمسّك بالاصل فقد ان النصّ. بل یحصل القطع حینئذٍ بتعلّق حكم شرعیّ بالضّار ولكن لایعلم انّه مجرّد التعزیر أو الضّمان أو هما معاً، فینبغی للضّار ان یحصل العلم ببراءة ذمّته بالصّلح وللمفتی الكفّ عن تعیین حكم لانّ جواز التمسّك باصالة براءة الذّمّة والحال هذه غیر معلوم.
وقد روی البرقی فی كتاب المحاسن عن ابیه عن [النضر بن سوید عن] درست بن أبی‌منصور عن محمّد بن حكیم قال: قال أبوالحسن (علیه السّلام):
______________________________
(1) الفقیه 4/ 334 و فیه: لا ضرر ولا ضرار
(2) راجع التهذیب 7/ 215، ح 943 (صحیحة ابی ولّاد) ودعائم الإسلام 2/ 424
جامعة الأصول، ص: 126
«إذا جائكم ما تعلمون فقولوا وإذا جاءكم مالا تعلمون فها- ووضع یده علی فیه- فقلت: ولم ذلك؟ قال: لأنّ رسول اللَّه (صلّی اللَّه علیه و آله) اتی النّاس بما اكتفوا به علی عهده وما یحتاجون إلیه من بعده إلی یوم القیامة» «1».
ثمّ قال:
فإن قلت: هذه الرّوایة كما یدلّ علی حكم ما إذا حصل الضّرر یدلّ علی غیره ایضاً قلت لانسلّم فانّا ندّعی انّه لیس داخلًا فی ما لاتعلمون فإنّ قبح تكلیف الغافل معلوم وموضوعیّة ما حجب اللَّه علمه عن العباد معلوم واباحة ما لم یرد فیه نهی معلوم للاخبار المذكورة، وامّا فی صورة الضّرر فكون التكلیف حینئذٍ تكلیف الغافل غیر معلوم إذ الضّار یعلم انّه صار سبباً لاتلاف مال محترم وشغل الذّمة حینئذٍ فی الجملة ممّا هو مركوز فی الطبائع وكذا الكلام فی كونه ممّا حجب اللَّه علمه عن العباد وممّا لم یرد فیه نهی- انتهی- «2».
اقول: ما یقتضیه النظر هو انّ التمسّك باصل البراءة لنفی شغل الذمّة انّما یكون فیما لم یتحقّق دلیل صالح دالّ علی شغلها والّا فلا یجوز التمسّك به لما ذكر وماذكره هذا الفاضل من الصّور المذكورة امّا قام الدّلیل فیها علی تحقق شغل الذّمة أو لا. فعلی الاوّل لا وجه للحكم بانّه
______________________________
(1) المحاسن 213 ح 91
(2) الوافیة 194
جامعة الأصول، ص: 127
ینبغی التوقّف عن الافتاء ولصاحب الواقعة الصّلح، لانّ المفروض قیام الدّلیل علی تحقق شغل الذمّة. وان لم یقم الدّلیل فیها علی تحقق شغل الذمّة فیمكن التمسّك فیها بالاصل لعدم تحقّق ما یدلّ علی شغل الذّمة لانّ الدلیل الّذی لایمكن معه التمسّك بالاصل هو الدّلیل الّذی كان صالحاً لتأسیس الحكم الشرعی لا الّذی وقع الشكّ فی انّه صالح للتأسیس أم لا. فالصور المذكورة ان علم دخولها جزماً فی قوله (علیه السّلام): «لاضرر ولاضرار فی الاسلام» أو فی حكم من اتلف مالًا لغیره فیجب الحكم بشغل الذمّة ولایمكن اجراء الأصل، لانّه لا شكّ انّ جریان الأصل انّما یكون فیما وقع الشكّ والاحتمال والّا ففی صور الیقین والجزم باحد الطّرفین فلا یحتاج إلی اجراء الأصل مطلقاً وماذكره من الفرق بین الصّور المذكورة وغیرها یرد علیه انّه ان قام الدّلیل جزماً علی انّه ضاّر وذمّته مشغولة فیصحّ الفرق ولكن حكمه اوّلًا بالتوقّف لا وجه له وان لم یقم الدّلیل علی سبیل الجزم ولم یحصل الجزم بمشغولیّة الذمّة فلا شكّ فی دخولها فی قوله (علیه السّلام): «ما حجب اللَّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم» وفی «مالا یعلمون» وغیر ذلك لعدم حصول العلم حینئذٍ، لانّ مجرّد الشكّ و الاحتمال لا یدخل فی عنوان العلم وهو واضح بحمد اللَّه.
وثانیهما: ان یكون الاستدلال به علی نفی الحكم الشرعیّ اعنی ثبوت التكلیف، لا علی اثبات الحكم الشّرعی یعنی التكلیف لانّ الادلّة
جامعة الأصول، ص: 128
الدّالّة علی اعتبار هذا الأصل یدلّ علی سقوط التكالیف الشّرعیّة فاثبات التكالیف به خلاف ما تقتضیه الادلّة ولذا لم یذكره الاصولیون فی جملة الادلّة.
ویتفرّع علی ذلك انّ أصالة براءة الذمّة من جهة إذا كانت مستلزمة لشغل الذمّة من جهة اخری لا یصحّ الاستدلال بها مثلًا إذا علم یقیناً بنجاسة أحد الانائین فقط ولكن اشتبه بالاخر فإن صحّ الاستدلال باصالة عدم وجوب الاجتناب من أحدهما یلزم وجوب الاجتناب من الاخر فیثبت من أصل البراءة التكلیف وهو خلاف مقتضاه. وكذا الحكم بعینه فی الزّوجة المشتبهة بالاجنبیّة، والثوبین الّذین یكون احدهما طاهراً والاخر نجساً واشتبه الطّاهر بالنّجس، والحلال المشتبه بالحرام المحصور وغیر ذلك من امثال ذلك فلا یجوز اجراء الأصل فیها.
إذا عرفت هذا فاعلم انّ كلّ موضع كان اجراء أصل البراءة فیه صحیحاً یكون اجراء إستصحاب حال العقل فیه صحیحاً.
امّا أصل البراءة بالمعنی الثانی فظاهر لانّ البراءة الاصلیّة من الوجوب ازلیّة فیجب ان یكون مستصحبة إلی ان یقوم الدّلیل كما یدلّ علیه دلیل الإستصحاب فیرجع إلی إستصحاب حال العقل.
وامّا بالمعنی الاوّل اعنی الاباحة فلانّ الاشیاء قبل بعثة الرّسل كانت علی الاباحة فیجب ان یكون مستصحبة حتی یقوم الدّلیل.
ویظهر من هذا انّ كلّ موضع ارید فیه التمسّك بنفی البراءة من
جامعة الأصول، ص: 129
التكلیف فی حقوق اللَّه سواء كان وجوباً أو حرمة أو نفی اشتغال الذمّة من حققوق النّاس. یمكن ذلك بأصل البراءة وان لم یلاحظ الحالة السّابقة ومع عدم الملاحظة المذكورة یثبت المطلوب لانّ الادلّة الدّالة علی البراءة الاصلیّة تدلّ علی انّ كلّ وقت لم یثبت الدّلیل تكون الذمّة بریئة فلا یحتاج إلی الملاحظة المذكورة حتی یثبت المطلوب من دلیل الإستصحاب. ویمكن بإستصحاب حال العقل ان لوحظت الحالة السّابقة ویكون الدّلیل علیه هو دلیل الإستصحاب كما ستعرف ان شاء اللَّه تعالی.
وامّا أصل العدم فلما كان اعمّ من أصل البراءة كما عرفت فكلّ فرد منه یرجع إلی التكلیف فیمكن الاستدلال به بالوجهین «1» اعنی باصل البراءة وإستصحاب حال العقل وامّا ما لا یرجع إلیه كاصل العدم فی موضوعات الاحكام وما یتعلّق بها أو فیما لا یتعلّق بها اصلًا فلا یمكن «2» مع قطع النّظر عن دلیل الإستصحاب لانّه لم یرد شی‌ء من الشریعة یدلّ علی انّ كلّ ممكن یجب ان یكون فی كلّ وقت معدوماً حتی یحصل الیقین بوجوده بل انمّا ورد فی التكلیف فقط ولیس یدلّ علیه الدّلیل العقلی ایضاً لانّ ما ثبت من العقل انّ الممكن ما تساوی علیه الوجود والعدم بالنّسبة إلی ذاته، فذاته بذاته لا یقتضی الوجود والعدم، بل كلّ منهما مستند إلی العلّة وعدم علّة الوجود هو علّة
______________________________
(1) الاستدلال علی نفیه بالوجهین. خ.
(2) فلا یمكن نفیه. خ.
جامعة الأصول، ص: 130
العدم. ولما ثبت ان كلّ الممكنات حادثة فیكون اعدامها سابقة علی وجودها ویكون معدومة حتّی یتحقّق علّة الوجود فإذا وقع التردّد فی وقت بأنّه هل صار علّة هذا الممكن موجوداً حتی یكون هو ایضاً موجوداً أم لا؟ فلا یمكن الحكم بأنّ علّته لیس الآن موجوداً مع قطع النّظر عن الحالة السّابقة، لانّ ما ثبت من العقل ان اعدام الممكنات سابقة علی وجودها فإذا وقع التردّد فی وقت بأنّ الممكن الفلانی هل هو موجود أو معدوم إذا لم یكن تكلیفاً یمكن نفیه بأن یقال عدمه السّابق یقینی فلا بدّ ان یكون باقیاً حتی یثبت علّة الوجود بدلیل الإستصحاب كما سیجی‌ء ان شاء اللَّه تعالی.
وامّا مع قطع النّظر عن الحالة السابقة واجراءها إلی اللاحق فلا یمكن الحكم جزماً بانّه لیس الآن موجوداً لعدم دلیل یدلّ علیه لا من الشّرع لما عرفت ولا من العقل لعدم حصول القطع بعدم حدوث علّة الوجود فكیف یمكن الحكم القطعی بنفی هذا الممكن ان لم یتمسّك بالحالة السابقة واجراءها إلی الوقت الّذی وقع فیه التّردّد.
فظهر انّ الحكم بأنّ الأصل فی الممكن العدم- إذا كان هذا الممكن غیر التكلیف- من دون التمسّك بالحالة السابقة غیر ممكن فلما ثبت أصل البراءة ویثبت «1» ایضاً إستصحاب حال العقل ان شاء اللَّه تعالی یثبت أصل العدم ایضاً بكلا فردیه ولیس هو شیئاً علیحدة كما اشرنا إلیه.
______________________________
(1) وثبت. خ.
جامعة الأصول، ص: 131

الفصل الثالث فی حكم الشّبهة فی طریق الحكم‌

اشارة

فاعلم انّ الشبهة فی طریق الحكم ما كان موضوع الحكم الشرعی مشتبها وكان نفس الحكم الشّرعی معلوماً كما إذا اشتبه اللّحم بانّه مذكّی أو میتة مع العلم بحرمة المیتة وحلیّة المذكّی، أو اشتبه شی‌ء بانّه نجس أم لا، أو اشتبه شی‌ء بانّه مسروق أو مغصوب أم لا، وغیر ذلك من الامثلة الّتی كان نفس الحكم فیها معلوماً ولكن وقع الشكّ فی الموضوع.
والمجتهدون والاخباریون قاطبة ذهبوا الی ان الحكم فیها الاباحة.
ویدلّ علیه أكثر الآیات والاخبار المتقدّمة بعمومها.
ویدلّ علیه اخبار اخر بخصوصها.
جامعة الأصول، ص: 132
منها ما رواه ثقة الاسلام رحمه اللَّه تعالی فی الكافی وشیخ الطائفة روحی فداه فی التهذیب عن الصّادق (علیه السّلام) انّ امیرالمؤمنین (علیه السّلام) سئل عن سفرة وجدت فی الطریق مطروحة كثیرة لحمها وخبزها وبیضها وجبنها وفیها سكّین فقال امیرالمؤمنین (علیه السّلام): یقوّم ما فیها ویؤكل ما یفسد «1» ولیس له بقاء فإن جاء طالبها اغرم له الثمن قیل: یا امیرالمؤمنین (علیه السّلام) لا ندری سفرة مسلم أم سفرة مجوسی؟ فقال: هم فی سعة حتی یعلموا «2».
ومنها: ما روی فی الصّحیح عن أبی‌ایّوب عن أبی‌بصیر قال: سألت أحدهما (علیهما السّلام) عن شراء الخیانة والسرّقة قال: لا الّا ان یكون قد اختلط معه غیره فامّا السرقة بعینها فلا «3».
ومنها: ما روی احمد بن أبی‌عبداللَّه البرقی فی المحاسن عن ابیه عن محمّد بن سنان عن أبی‌الجارود قال: سألت ابا جعفر (علیه السّلام) عن الجبن وقلت له اخبرنی من رأی انّه یجعل فیه المیتة قال: امن اجل مكان واحد یجعل فیه المیتة حرم فی جمیع الارضین؟ إذا علمت انّه میتة فلا تأكله وان لم تعلم فاشتر وبع «4»- الحدیث-.
______________________________
(1) فی المصدر: لانّه یفسد.
(2) الكافی 6/ 297. الوسائل 17/ 372 طبع الاسلامیّة. التهذیب 9/ 100
(3) الوسائل 17/ 90 و 335 نقلًا عن التهذیب
(4) الوسائل 25/ 119 نقلًا عن المحاسن
جامعة الأصول، ص: 133
ومنها: ما رواه الیقطینی عن صفوان عن معاویة بن عمّار عن رجل من اصحابنا قال: كنت عند ابی جعفر (علیه السّلام) فسأله رجل عن الجبن؟ فقال أبوجعفر (علیه السّلام): انّه لطعام یعجبنی فسأخبرك عن الجبن وغیره، كلّ شی‌ء فیه الحلال والحرام فهو لك حلال حتی تعرف الحرام بعینه فتدعه «1».
ومنها: ما روی فی الصّحیح عن مولانا الباقر (علیه السّلام) قال: ان كنت تعرف انّ «2» مالًا معروفاً ربا وتعرف اهله فخذ رأس مالك وردّ ماسوی ذلك وان كان مختلطاً فكله هنیئاً فإنّ المال مالك «3».
ومنها: ما روی فی الصّحیح ایضاً عن الصّادق (علیه السّلام): لو انّ رجلًا ورث من ابیه مالًا وقد عرف انّ فی ذلك المال رباً ولكن قد اختلط فی التجارة بغیره فإنّه له حلال طیّب فلیأكله وان عرف منه شیئاً انّه ربا فلیأخذ رأس ماله ولیردّ الزیادة «4».
ومنها: ما روی عن الصادق (علیه السّلام) انّه قال: لایصلح شراء السّرقة والخیانة إذا عرفت «5».
______________________________
(1) نفس المصدر
(2) فی المصدر: ان كنت تعلم بأنّ فیه مالا معروفاً
(3) الوسائل 18/ 129 نقلًا عن الكافی و الفقیه و التهذیب
(4) الوسائل 18/ 128 نقلًا عن الكافی و التهذیب
(5) الوسائل 17/ 336 نقلًا عن التهذیب.
جامعة الأصول، ص: 134
ومنها: ما روی عن الباقر (علیه السّلام) حیث سئل عن السّمن والجبن نجده فی ارض المشركین بالرّوم أنأكله؟ فقال (علیه السّلام): امّا ما علمت انّه قد خلطه الحرام فلا تأكل وامّا ما لاتعلم فكل حتی تعلم انّه حرام «1».
ومنها: قول الصّادق (علیه السّلام) حین سئل عن رجل اصاب مالًا من عمل بنی‌امیّه وهو یتصدّق منه ویصل منه قرابته ویحجّ لیغفر له ما اكتسب وهو یقول انّ الحسنات یذهبن السیّئات: ان الخطیئة لا تكفّر الخطیئه ولكن الحسنة تحطّ السیّئة ثمّ قال: «ان كان خلط الحرام حلالًا فاختلط جمیعاً ولایعرف [الحرام من الحلال فلا بأس «2» الصدقة وغنمها فهو یعلم انّهم یأخذون منهم اكثر من الحقّ الّذی یجب علیهم من الابل والبقر والحنطة والشعیر و غیر ذلك لا بأس به حتی تعرف الحرام بعنیه «3».
ومنها: روایة اسحق بن عمّار قال: سألته عن الرجل یشتری من العامل وهو یظلم قال: یشتری منه ما لم یعلم انّه ظلم فیه أحداً «4».
ومنها: ما روی عن الصّادق (علیه السّلام) حیث قال لمّا سئل عن الجبن: كلّ
______________________________
(1) الوسائل 24/ 236 نقلا عن التهذیب و مستطرفات السرائر
(2) السرائر ص 77، الوسائل 17/ 88. الكافی 5/ 126
(3) الوسائل 17/ 219 نقلا عن الكافی
(4) الوسائل 17/ 221 الكافی 5/ 238
جامعة الأصول، ص: 135
شی‌ء حلال حتی یجیئك شاهد ان یشهد ان عندك ان فیه میتة «1».
ومنها: ما روی عن الصادق (علیه السّلام) قال: اتی رجل امیرالمؤمنین (علیه السّلام) قال: انّی اكتسب مالًا اغمضت فی مطالبه حلالًا وحراماً وقد اردت التّوبة ولا ادری الحلال من الحرام وقد اختلط علیّ فقال: امیرالمؤمنین (علیه السّلام) تصدّق بخمس مالك فإنّ اللَّه عزّوجلّ یرضی من الاشیاء بالخمس [وسائر المال لك حلال «2»].
ومنها: ما روی محمّد بن یعقوب باسناده عن عبداللَّه بن سلیمان قال: سألت اباجعفر (علیه السّلام) عن الجبن- إلی ان قال:- فساخبرك عن الجبن وغیره، كلّ ما كان فیه حلال وحرام فهو لك حلال حتی تعرف الحرام بعینه فتدعه «3».
روی البرقی فی المحاسن عن ابن محبوب عن عبداللَّه بن سنان مثله «4».
ومنها: قول الصّادق (علیه السّلام): كلّ شی‌ء هو لك حلال حتی تعلم انّه حرام بعنیه فتدعه من قبل نفسك وذلك مثل الثوب یكون علیك قد اشتریته وهو سرقة، أو المملوك عندك ولعلّه حرّ قد باع نفسه، أو
______________________________
(1)-
(2) الوسائل 9/ 506 نقلًا عن الكافی والتهذیب والفقیه والمحاسن و المقنعة
(3) الوسائل 25/ 118 نقلًا عن الكافی والمحاسن
(4) المحاسن 496 ح 601
جامعة الأصول، ص: 136
خدع فبیع أو قهراً أو امرأة تحتك وهی اختك او رضیعتك، والاشیاء كلّها علی هذا حتی یتبیّن «1» لك غیر ذلك أو تقوم به البیّنة «2».
إذا عرفت ذلك فاعلم انّ المجتهدین ذهبوا إلی استحباب الاجتناب هنا ایضاً كما فی ما لا نصّ فیه ایضاً لاخبار الشبهة ولا ریب انّ الشبهة تصدق علی ما اشتبه الموضوع فیه كما تصدق علی ما اشتبه الحكم الشرعی فیه لانّه لیس للشبهة حقیقة شرعیّة، فالواجب الرجوع إلی العرف واللّغة، وصدق الشبهة علی ما اشتبه الموضوع فیه غیر خفی علی الاذكیاء.
ویدلّ علیه ایضاً ما ورد من مولانا امیرالمؤمنین صلوات اللَّه علیه حیث قال: انّما سمیّت الشّبهة شبهة لانّها تشبه الحقّ فامّا اولیاء اللَّه فضیاؤهم فیها الیقین ودلیلهم سمت الهدی «3» الحدیث.
ویدلّ علیه ایضاً بعض الاخبار المتقدّمة كقوله (علیه السّلام): حلال بیّن وحرام بیّن وشبهات بین ذلك «4».
فإنّه یدلّ علی انّ ما سوی الیقین شبهة وما نحن فیه ما عدا الیقین.
______________________________
(1) فی المصادر یستبین.
(2) الوسائل 17/ 89 نقلًا عن الكافی 5/ 313 والتهذیب 7/ 226
(3) كذا فی الوسائل 27/ 161 ولكن فی الاصل هكذا: فضیاؤهم فیها الهدی ودلیلهم سمت الیقین
(4) الوسائل 27/ 157
جامعة الأصول، ص: 137
وكذا قوله (علیه السّلام): «1» «انّما الامور ثلاثة امر بیّن رشده فیتّبع و امر بیّن غیّه فیتجنب وشبهات بین ذلك» یدلّ علی المطلوب.
وكذا امثال ما ذكرنا من الاخبار الدالّة علی التثلیث لانّه یستفاد منها انّ الاحكام تنقسم إلی ثلاثة قسمان منها یقینیّان وواحد منها شبهة فكلّ امرٍ لم یكن حلیّته أو حرمته یقینیّة یكون شبهة وما نحن فیه كذلك وإذا كان من جملة الشبهة یستحبّ الاجتناب عنها بناء علی ما ذهب إلیه الاصولیّون من اصحابنا للجمع بین الادلّة.
ویدلّ علی الاجتناب ایضاً ما رواه الشیخ رحمه اللَّه فی باب المكاسب من كتاب التهذیب من قول الصّادق صلوات اللَّه وسلامه علیه: تشوّفت الدّنیا إلی قوم حلالًا محضاً فلم یریدوها فدرجوا ثمّ تشوّفت إلی قومّ حلالًا وشبهة فقالوا لا حاجة لنا إلی الشبهة وتوسّعوا فی الحلال وتشوّفت إلی قوم حراما وشبهة فقالوا لا حاجة لنا فی الحرام وتوسّعوا فی الشبهة ثمّ تشوّفت إلی قوم حراماً محضاً فطلبوها فلم یجدوها. والمؤمن یأكل فی الدّنیا بمنزلة المضطرّ «2».
وقوله ایضاً عن آبائه (علیهم السّلام) انّ النبی صلی اللَّه علیه وآله قال: «لا تجامعوا فی النكاح علی الشبهة وقفوا عند الشبهة، یقول إذا بلغك
______________________________
(1) الكافی 1/ 68 مع اختلاف یسیر
(2) الوسائل 17/ 82. التهذیب 6/ 369. الكافی 5/ 125
جامعة الأصول، ص: 138
انّك قد رضعت من لبنها وانّها لك محرّم- الحدیث- «1».
وقوله (علیه السّلام) ایضاً: إذا اختلط الحلال بالحرام غلب الحلال الحرام «2».
وغیر خفی انّ هذا الخبر مجمل الدّلالة علی المطلوب بل الظاهر منه انّ الحلال فاعل لقوله (علیه السّلام): «غلب» فحینئذٍ یكون كالاخبار المتقدّمة الدالّة علی الاباحة فی الشبهة فی موضوع الحكم الشرعی.
والعجب انّ الاخباریین استدلّوا علی التوقّف فی الشبهة فی نفس الحكم الشّرعی اعنی فیما لم یرد به نصّ ولم یعلم هل هو حلال أو حرام باخبار التثلیث الدالّة علی الوقوف عند الشبهة، وصرّحوا بالاباحة فی الشبهة فی موضوع الحكم الشرعی مع انّ الشبهة الواردة فی اخبار التثلیث تصدق علیها.
قال بعض الاخباریین: ان قال قائل: ایّها السالكون فی طریق الاعمال بدلالة الحدیث والجاعلون بناء اموركم علی التثلیث: حلال بین وحرام بیّن وشبهات بین ذلك، هل بلغكم بها حقیقة شرعیّة؟ أم تحكمون فیها بحقیقة لغویّة أو عرفیّة أو بامارات قطعیّة أو ظنیّة؟ فإن كان لها حقیقة شرعیّة فبیّنوها لنا ولانزاع، والّا فكیف تحكمون بأنّ ما لا نصّ فیه وكلّ ما لیس
______________________________
(1) الوسائل 20/ 259
(2) فی غوالی اللئالی 2/ 132 و 3/ 466: ما اجتمع الحلال و الحرام إلّا غلب الحرام الحلال
جامعة الأصول، ص: 139
بحلال بیّن فهو شبهة، مع انّ الشارع قال: «شبهات بین ذلك» ولم یقل كلّ ما كان بین ذلك فهو شبهة، ولما كان جمیع اعمالكم مقصوراً علی الخبر وتقتفون ابداً اثار النّص والاثر طلبنا منكم التحدید الشّرعی بأنّ الشبهة ماذا؟ وقد قال الشارع: كلّ شی‌ء مطلق حتی یرد فیه نهی «1» نعم ورد النّهی بطریق العموم من ارتكاب الشبهات لكن لیس نصّاً فی العموم بل یحتمل عموم الانواع لا الاجناس، فعلی هذا اثبات هذا الحكم بطریق العموم فی غایة الاشكال ولا یتمّ فی نفس الامر الاستدلال بل یحتمل لقیام الاحتمال ففی ایّ موضع قال الشارع مشتبهة توقّفنا علیه واحتطنا وفی غیره ما جزمنا بالاشتباه بل حكمنا انّه داخل فی أحد الفردین الاخرین وعلی طریقتكم لا علی طریقتنا یلزم طرح الخبر فلا نعلم ایّ داع حداكم إلی هذه امع امكان الجمع بما لا یستلزم الحذر فأیّ الطّریقین اقرب إلی الإحتیاط فیكف تحكمون وایّ الطریقین احقّ بالامن ان كنتم لا تعلمون:
فكیف جواب هذا القائل؟ وتحقیق المقام الّذی هو موافق لاحادیث ائمّة الانام (علیهم السّلام).
واجاب بأنّ الّذی ظهر بالتأمّل والتتبّع لمواقع استعمال لفظ الشبهة انّه لیس لها حقیقة شرعیّة ولا عرفیّة یخالف اللغویّة بل المعانی الثلاثة متجدّدة «2» بل هی ما كان فیه اشتباه وخفاء وكان حكمه غیر بیّن- انتهی.
______________________________
(1) الفقیه 1/ 317
(2) متّحدة
جامعة الأصول، ص: 140
ولا یخفی ان هذا الجواب صریح فی انّ الشبهة شاملة للشبهة فی الموضوع وهو ظاهر، بل الحقّ علی ما ذهب إلیه بعض المجتهدین انّ الشبهة لا یطلق علی ما لا نصّ فیه لّان حكمه اعنی الاباحة ظاهر بیّن من الآیات والاخبار لا اشتباه فیه بل اطلاق الشبهة مقصور علی ما تعارض فیه النّصان والشبهة فی الموضوع والعجب انّ الاخباریین جزموا بكون ما لا نصّ فیه داخلًا فی الشبهة واخرجوا الشبهة فی الموضوع عن الشبهة ولا ادری ما دلیلهم علی ذلك؟

[كلام الشیخ الحرّ العاملی]

وقد اطال الكلام فی المقام شیخنا الفاضل الكامل الحرّ العاملی (قدّس سرّه) للتفرقة بین الموضوعین، فلنذكر كلامه حتی یظهر كیفیّة الحال.
قال طاب ثراه مورداً علی الاخباریین: إن قال قائل وسأل سائل یا معشر الاخباریین ویا اهل التوقّف فیما لا نصّ فیه وفی الشبهات من المحتاطین لقد جعلتم الشبهة علی قسمین وسمیتموها باسمین: الشبهة فی نفس الحكم الشرعی وفی طریقه، ما حدّ هذین النوعین علی الوجه الّذی یرفع الاشتباه من البین؟ وهل لكم رخصة من سادة الثقلین فی تقسیم
جامعة الأصول، ص: 141
الشبهة إلی هذین القسمین وانتم توجبون التوقّف فی أحدهما دون الاخر مع انّ اسم الشبهة یصدق علیهما صدقاً صریحاً فی الظاهر. وعلی القاعدة الّتی قررتموها یلزم انّ شرب التّتن صدر من الشارع علی طریق الحظر وعلی هذا كلّ ما لا نصّ علیه بالحرمة من المطعومات والمشروبات وهو حلال مباح غیر محرّم فكیف الجواب وماطریق ارشاده إلی الصّواب؟
واجاب بأنّ حدّ الشبهة فی نفس الحكم الشرعی ما اشتبه حكمه الشرعی اعنی الاباحة والتحریم كمن شكّ فی انّ اكل المیتة حلال أو حرام وحدّ الشبهة فی طریق الحكم الشرعی ما اشتبه فیه موضوع الحكم الشرعی مع كون محموله معلوماً كما فی اشتباه اللّحم الّذی یشتری من السّوق انّه مذكّی أم میتة مع العلم بأنّ المیتة حرام والمذكّی حلال وهذا التقسیم یستفاد من احادیث الائمّة (علیهم السّلام) ومن وجوه عقلیّه مؤیّدة لتلك الاحادیث ویأتی جملة منها وبقی قسم متردّد بین القسمین وهو الافراد الّتی لیست بظاهرة الفردیّة لبعض الانواع ولیس اشتباهها بسبب شی‌ء من الامور الدنیویّة كاختلاط الحلال بالحرام بل اشتباهها بسبب امر ذاتی اعنی اشتباه صفتها فی نفسها كبعض افراد الغناء الّذی قد ثبت تحریم نوعه واشتبهت انواعه فی افراد یسیرة وبعض افراد الخبائث الّذی قد ثبت تحریم نوعه واشتبه بعض افراده حتی اختلف العقلاء فیها ومنها شرب التتن وهذا النّوع یظهر من الاحادیث دخوله فی الشبهات الّتی ورد الامر باجتنابها وهذه التفاصیل یستفاد من مجموع الاحادیث ونذكر ما یدلّ علی ذلك.
جامعة الأصول، ص: 142
منها: قولهم (علیهم السّلام): كلّ شی‌ء فیه حلال و حرام فهو لك حلال حتی تعرف الحرام بعینه فتدعه فهذا واشباهه صادق علی الشبهة الّتی فی طریق الحكم الشرعی فإنّ اللّحم الّذی فیه حلال وهو المذكی وحرام وهو المیتة قد اشتبهت افراده فی السّوق ونحوه وكالخبز الّذی هو ملك لبایعه أو سرقة مغصوب فی مالكه وكذلك سائر الاشیاء داخلة تحت هذه القاعدة الشریفة المنصوصة. فإذا حصل الشكّ فی تحریم المیتة مثلًا لا یصدق علیها انّ فیها حلالًا وحراماً.
ومنها: قولهم حلال بیّن وحرام بیّن وشبهات بین ذلك وهذا انّما ینطبق علی ما اشتبه فیه نفس الحكم الشرعی والّا لم یكن. الحلال البیّن ولا الحرام البیّن ولایعلم احدهما من الاخر الّا علّام الغیوب وهذا ظاهر واضح.
ومنها: انّه قد ورد الامر البلیغ باجتناب ما یحتمل التحریم والاباحة بسبب تعارض الادلّة وعدم النّص ونحوهما وذلك واضح الدّلالة علی اشتباه نفس الحكم الشرعی ومنها: انه قد ورد النهی عن اجتناب كثیر من افراد الشبهات فی طریق الحكم الشرعی كقولهم علیهم السلام فی اللحم والجبن ونحوهما: اشتر من اسواق المسلمین وكل ولا تسأل عنه نحو ذلك ومنها: انّ ما ورد فی وجوب اجتناب الشبهات ظاهر العموم والاطلاق شامل لاشتباه نفس الحكم الشرعی وللافراد الغیر الظاهرة
جامعة الأصول، ص: 143
الفردیّة وغیر ذلك خرج منه الشبهات فی طریق الحكم الشرعی بالاحادیث الّتی اشرنا الیها والوجوه الّتی یؤیّدها ففی الباقی لیس له مخصّص.
ومنها: اّن ذلك وجه للجمع للاخبار لایكاد یوجد اقرب منه.
ومنها: انّ نفس الحكم الشرعی یجب سؤال النبی (صلّی اللَّه علیه و آله) والامام (علیه السّلام) عنه وكذا الافراد الّتی لیس بظاهر الفردیّة وقد سئل الائمّة (علیهم السّلام) عن ذلك فاجابوا و طریق الحكم الشرعی لا یجب سؤال الائمّة (علیهم السّلام) عنه ولا كانوا یسألون عنه وهو اوضح بل علمهم بجمیع افراده غیر معلوم أو معلوم العدم لكونه من علم الغیب فلا یعلمه الّا اللَّه وان كانوا یعلمون منه ما یحتاجون إلیه وإذا شاءوا ان یعلموا شیئاً علموه.
ومنها: انّ اجتناب الشبهة فی نفس الحكم الشرعی امر ممكن مقدور لانّ انواعه قلیلة لكثرة الانواع الّتی ورد النصّ باباحتها والانواع الّتی ورد النّص بتحریمها وجمیع الانواع الّتی یعمّ به البلوی منصوصة وكلّ ما كان فی زمان الائمّة (علیهم السّلام) متداولًا ولم یرد النّهی عنه فتقریرهم فیه كاف. وامّا الشبهة فی طریق الحكم الشرعی فاجتنابها غیر ممكن لما اشرنا إلیه سابقاً وعدم وجود الحلال البیّن فیها وتكلیف ما لا یطاق باطل عقلًا ونقلًا ووجوب اجتناب كلّما زاد علی قدر الضّرورة حرج عظیم وعسر شدید وهو منفی لاستلزامه وجوب الاقتصار فی الیوم واللّیلة علی اللقمة الواحدة
جامعة الأصول، ص: 144
وترك جمیع الانتفاعات الّا ما استلزم تركه الهلاك، والاعتذار بامكان الحمل علی الاستحباب لا یفید شیئاً لأنّ تكلیف ما لا یطاق باطل بطریق الوجوب والاستحباب كما لو كان صعود الانسان إلی السّماء واجباً أو مستحبّاً فإن كلّا منهما محال من الحكیم.
ومنها: انّه قد ثبت وجوب اجتناب الحرام عقلًا ونقلًا ولایتم الّا باجتناب ما یحتمل التحریم مما اشتبه حكمه الشرعی ومن الافراد الّتی لیست بظاهرة الفردیّة وما لا یتمّ الواجب الّا به وكان مقدوراً فهو واجب.
إلی غیر ذلك من الوجوه وان امكن المناقشة فی بعضها فمجموعها دلیل كاف شاف فی هذا المقام واللَّه تعالی أعلم بحقائق الاحكام انتهی كلامه رفع مقامه وزید اكرامه «1».

[حول كلام الشیخ الحرّ]

إذا عرفت ذلك فیجب علینا ان نتكلّم فی كلّ جزء من كلامه حتی یظهران ما اتی به لوجه الفرق بین حكم الشبهة فی نفس الحكم والشبهة فی موضوعه غیر سدید
______________________________
(1) الفوائد الطوسیّة للشیخ الحرّ العاملی ص 518
جامعة الأصول، ص: 145
فنقول: ما اتی به لوجه الفرق بین الشبهة فی نفس الحكم والشبهة فی موضوعه صحیح ولكن لا شكّ ان الشبهة تصدق علیهما معاً والقسم الّذی افاد انّه یبقی متردداً بین القسمین لیس الّا من قسم الشبهة فی الموضوع وذلك لانّه إذا وقع شكّ فی انّ هذا الفرد داخل تحت الغناء الّذی یثبت تحریمه لا یرجع هذا الشكّ الّا إلی صدق الموضوع الثابت تحریمه اعنی الغناء علی الفرد المذكور فهو لیس الّا من الشبهة فی موضوع الحكم الشرعی وكذا الحكم بعینه فی بعض افراد الخبائث الّذی یثبت تحریم نوعه فهذا لیس قسماً علیحدة حتی یتغیّر حكمه مع حكم الشبهة فی الموضوع.
وما قال من انّ هذا النوع یظهر من الاحادیث دخوله فی الشبهات- الی آخره-.
ففیه انّ هذا مسلّم ولكن لا یخصّص لهذه الامثلة بل جمیع الشبهات فی طریق الحكم داخل تحت الشبهة وورد الاخبار باجتنابها فانتم معاشر الاخباریین ان توجبوا الاجتناب عن الشبهة فلم لا توجبون فیما اشتبه فیه الموضوع مع انّ صدق الشبهة علیه اظهر وان لم توجبوا فلم تنسبون انفسكم إلی التثلیث وتقولون نحن اصحاب التثلیث القائلون بأنّ الحكم ثلاثة حلال بیّن وحرام بیّن و شبهات بین ذلك ثم اعلم انّی لست الآن متذكراً بأنّ الاخباریین یقولون ما اشتبه فیه الموضوع لیس من الشبهة مطلقاً بل الحلال البیّن، أو یقولون من الشبهة ولكن لیس من الشبهة الّتی یجب الاجتناب عنها بل یستحبّ، أو من الشبهة
جامعة الأصول، ص: 146
ولا یستحبّ الاجتناب عنها ایضاً، ولم یكن كتبهم عندی وقت تألیف الرّسالة حتی احقّق الحال فی ذلك فإنّ كان مذهبهم الاوّل، فیرد علیه انّ ذلك خروج عن الحقّ لصدق الشبهة علیه لغة وعرفاً ولذا یحترزون عنه العلماء الاخیار والصلحاء الابرار فی الاقطار والامصار مدی الاعصار. بل یمكن ان یقال: ذلك خلاف ما علیه المسلمون لما نری ان دینهم وشعارهم و شنشنتهم ودثارهم الاجتناب من امثال ما نحن فیه وقد عرفت دلالة بعض الاخبار علیه ایضاً.
وان كان الثانی فیرد علیه.
امّا اوّلًا فبأنّ هذه التفرقة لا یدلّ علیها دلیل لا من العقل ولا من النقل.
وامّا ثانیاً فلانّ الاحكام حینئذٍ یكون اربعة مع انّكم ثلثتموها.
وان كان الثالث فبطلانه اظهر من الاوّلین كما لا یخفی.
فإن قیل: انّهم یقولون بالتثلیث فی نفس الحكم الشرعی ویخصّصون الاخبار الواردة فی التثلیث به فیقولون المراد من الامور فی قوله (علیه السّلام): «انمّا الامور ثلاثة» الامور بالقیاس إلی نفس الحكم الشرعی.
قلت: هذا التخصیص لا دلیل علیه فإنّ قوله «الامور» جمع محلّی بالّلام یفید العموم وكذا لفظ «الشبهة» صادق لغة وعرفاً علی ما اشتبه نفس الحكم الشرعی أو موضوعه كما اشرنا إلیه مراراً فمن این یحكمون بهذا التخصیص؟ وبأیّ دلیل یرتكبون هذا الامر الّذی هو خلاف الأصل؟
جامعة الأصول، ص: 147
فإن قلت: جمیع الادلّة الدّالة علی الاباحة فیما لا نصّ فیه كان بعمومه دالًّا علی انّ الأصل فیما اشتبه فیه موضوع الحكم الشرعی الاباحة ویدلّ علیها الاخبار الاخر بخصوصها ایضاً كما ذكرتها، فالادلّة الدّالة علی اباحة الشبهة فی طریق الحكم لمّا كانت كثیرة بحیث لا یتقاوم معها ادلّة التوقّف فلذا حكموا بالاباحة فی الشبهة فی طریق الحكم بخلاف الادلّة الدّالة علی الاباحة فیما لا نصّ فیه فإنّها لم یكن كالادلّة علی اباحة الشبهة فی طریق الحكم كثرة، فكان ادّلة التوقّف راجحة علیها فلذا أخذوا بادلّة التوقّف.
قلت: قد عرفت أن ادلّة الاباحة فیما لا نصّ فیه كانت راجحة علی ادلّة التوقّف فیه بوجوه شتّی بل ما كانت ادلّة التوقّف صالحة للتقاوم مع ادلّة الاباحة فكیف یكون ادلّة التوقّف راجحة علی ادلّة الاباحة؟
وامّا الوجوه الّتی اتی بها شیخنا المتبحّر الشیخ الحُرّ طاب ثراه للفرق بین حكم الشبهة فی نفس الحكم والشبهة فی طریقه فلا تصلح لعلیّة الفرق.
امّا الوجه الاوّل، فلانا نسلّم ان قوله (علیه السّلام) كلّ شی‌ء فیه حلال وحرام- إلی آخره- صادق علی الشبهة فی طریق الحكم وهذا لا یدفع كون حكم الشبهة فی نفس الحكم ایضاً كذلك باعتبار ادلّة اخر فغایة ما فی الباب انّ هذا الخبر یدلّ علی الاباحة فی شبهة طریق الحكم فقط ولا ینفی كون حكم الشبهة فی نفس الحكم ایضاً كذلك فیبقی جمیع الادلّة الدالّة علی الاباحة فیما لا نصّ فیه سالماً عن المعارض كما ذكرناها وكان اعتمادنا علی هذه الادلّة لا علی هذا الخبر وهو واضح
جامعة الأصول، ص: 148
وایضاً كما عرفت یصدق الشبهة علی ما اشتبه فیه الموضوع والاخبار الدّالة علی التوقّف فی الشبهات كثیرة فكیف یحكم بالحلیّة فیها بمجرّد هذا الخبر.
وامّا الوجه الثانی، فلمّا كان فی مطلبه ادنی خفاء فلنوضح مطلبه ثمّ نأتی بالجواب عنه فنقول: غرضه (قدّس سرّه) انّ المراد من الشبهات فی الخبر هو الشبهات فی نفس الحكم الشرعی، بأن اشتبه علینا بأن هذا الشی‌ء حلال أو حرام ولكن علمنا بأنّ هذا الامر ماذا، ولیس المراد منها الشبهات فی طریق الحكم بأن اشتبه علینا مثلًا بأن هذا الشی‌ء داخل تحت الغناء الذی تحریمه ثابت أم لا، لانّ المراد من الشّبهات ان لم یكن ذلك لم یحصل العلم لاحد بالحلال والحرام الّا علّام الغیوب لانّ كل ما جزمنا بانّه حلال یمكن ان یكون موضوعه مشتبهاً، مثلًا إذا قلنا: هذا الخبز أو الحنطة أو اللّحم أو غیر ذلك من الاشیاء حلال إذا اخذناها من ید مسلم یمكن ان یقال: لیست هذه الاشیاء بحلال بیّن لانّ كلًا منها مشتبه الموضوع لانّها یمكن ان یكون مغصوبة أو مسروقةاو غیر ذلك وكذا الحكم فی جمیع ما تصوّر.
فإذا بنی‌الامر علی انّ المراد بالشبهات الشبهات فی الموضوع یدخل فیها جمیع ما هو حلال عندنا فیجب ان یحمل علی الشبهة فی نفس الحكم الشرعی حتی یكون الشبهات فی طریق الحكم داخلة فی الحلال البیّن حتی لا یلزم ذلك.
جامعة الأصول، ص: 149
و امّا الجواب عنه فهو انّ المراد بالحلال البیّن والحرام البیّن الواردین فی الخبر هو الحلال والحرام البیّنین عند المكلّف لا ماهو حلال أو حرام فی الواقع ونفس الامر، والدلیل علی ذلك وقوع تقابلهما مع الشبهات، فإنّه لا شكّ ان المراد من الشبهات لیس الشبهات فی الواقع ونفس الامر لانّ لجمیع القضایا والوقائع ولكلّ الامور والصّوادر حكماً ثابتاً عند اللَّه تعالی فیكون لجمیع القضایا، والامور احكام واقعیّة نفس الامریّة والامور الّتی وقعت فیها الشبهة انّما هو عندنا، فالمراد بالشبهات فی الخبر، الامور الّتی شبهات عندنا قطعاً فیجب ان نحمل الحلال والحرام الواردین فی الخبر ایضاً علی ما هو كذلك عندنا. ویشعر إلی ذلك لفظ «البیّن» كما لا یخفی علی العارف الفطن.
وإذا كان الامر كذلك نقول: إذا اخذنا الحنظة أو اللحم أو الخبز أو غیر ذلك من الاشیاء عن ید مسلم ولم یدلّ دلیل أو امارة أو قرینة علی انّها مغصوبة أو مسروقة لا یحصل لنا شبهة مطلقاً بانّها یمكن ان یكون مغصوبة أو مسروقة لعدم تكلیفنا بهذه الاحتمالات كما یدلّ علیه الاخبار فیكون كلّها من الحلال البیّن.
هذا مع انّه ان بنی الامر علی ان المراد بالحلال والحرام البیّنین ما هو كذلك فی الواقع ونفس الامر، یرد علیه انّه یلزم حینئذٍ ان لا یحصل العلم لاحد بالحرام والحلال، بل كاد ان ینسلك ذلك فی سلك المحال اللّهمّ الا فی احكام نادرة ومسائل قلیلة لانّ القطع بحكم اللَّه الواقعی من الممتنعات
جامعة الأصول، ص: 150
والجزم بمطلوبه النفس الأمر من المحالات الا فی قلیل من الأحكام، لانّ ادلّة الأحكام عندنا منحصرة بالكتاب والسنّة والعقل والاجماع.
والاوّل: اعنی القرآن لا یفید الّا الظنّ لعدم قطعیّة دلالته وان كان سنده قطعیّاً.
والثانی: یعنی الاخبار ایضاً لا یفید الّا الظن لعدم قطعیّة سندها لوجوه متعدّدة وان كان متنها قطعیّاً، والمتواتر منها قلیل جدّاً.
والثالث: اعنی الادلّة العقلیّة منحصرة بالإستصحاب وهو ایضاً لا یفید الّا الظنّ لانّ العمدة فی حجیته هی الاخبار وهی لم تبلغ حدّ التواتر حتی یفید العلم.
وامّا الرابع: اعنی الاجماع فالمنقول منه باخبار الاحاد فحكمه كذلك، والّذی بلغ ناقلوه بحدّ التواتر قلیل جدّاً، والاستنباطی الّذی كان مفیداً للعلم ایضاً فی غایة القلّة.
فظهر من هذا ان معظم الاحكام الشرعیّة وجلّ المسائل الفقهیّة انّما یستنبط من الظنّ ولا طریق للعلم إلیه، ولذا تحقق الاجماع من علمائنا علی الاكتفاء بالظنون الاجتهادیّة فی الاحكام الشرعیّة لئلا یلزم تعطیل الاحكام وانسداد أبواب الحلال والحرام. فحینئذٍ كیف یمكن حصول القطع فی جمیع الاحكام أو جلّها فلایمكن حمل الحلال البیّن والحرام البیّن علی ما ذكرت.
فظهر انّ الحلال البیّن والحرام البیّن ان كان المراد منهما الحلال البیّن
جامعة الأصول، ص: 151
والحرام البیّن عند المكلّف بالنّحو الّذی كلّف به لایلزم ما ذكرت من عدم وجدانهما وعدم حصول العلم لاحد بهما الّا العلّام الغیوب إذا حمل الشبهات علی العموم بحیث یشمل الشبهة فی نفس الحكم الشرعی وفی طریقه ایضاً، لانّه حینئذٍ كلّ شی‌ء حصل للمكلّف الظنّ بحلیّته یكون داخلًا فی الحلال ولایضّره احتمال كونه مغصوباً أو مسروقاً أو غیر ذلك وكذا الحكم بعینه فی الحرام، وكلّ شی‌ء لم یحصل له الظنّ بأحد الطرفین یكون داخلًا فی الشبهات سواء كان مما اشتبه فیه نفس الحكم أو موضوعه. مثلًا إذا اخذ فی سوق المسلمین شی‌ء كاللحم أو الخبز أو الحنطة أو غیر ذلك من ید مسلم ولم یعلم انّه مغصوب أو سرقة ولم ینشأ ایضاً ما یصیر به علیه متشبهاً مثل ان یقول أحد انّه حرام أو كان هذا الشی‌ء مخلوطاً بشی‌ء آخر هو حرام، فهو حلال بیّن له لانّ الحلال لیس الّا ما لا مؤاخذة فیه، والبیّن ما كان عدم المؤاخذة فیه ظاهراً ولا ریب انّه إذا اخذ الشی‌ء المذكور بالنحو المذكور لیس علیه مؤاخذة وهذا ظاهر بیّن لما تدلّ علیه الاخبار وان علم انّه مغصوب أو مسروق فهو حرام بیّن وان قال أحد انّه حرام ولكن لم یحصل له العلم أو الظنّ المعتبر شرعاً فهو مشتبه. وكذا الحكم بعینه فی غیر ذلك من الامور مثل انّه ان تزوّج بامرأة ولم یعلم أولم یشعر بامر مطلقاً فهی له حلال وان علم شیئاً من الاسباب المحرّمة فهی له حرام وان اشعر بشی‌ء منها فیصیر علیه شبهة. وكذا الحكم بعینه إذا وصل إلی الرجل میراث من ابیه. وكذا الحكم بعینه فی امثال هذه الامور
جامعة الأصول، ص: 152
وان كان المراد منهما الحلال والحرام فی نفس الامر والواقع یلزم عدم العمل بالحلال والحرام سواء حمل الشبهات علی شبهة الموضوع أو المحمول فیرد الایراد الّذی ذكرت علیك ایضاً.
وامّا الوجه الثالث، فیرد علیه ان دلالة بعض الاخبار علی ترك ما یحتمل التحریم والاباحة لا یدلّ علی الفرق بین الشبهة فی نفس الحكم الشرعی وبین الشبهة فی طریقه.
امّا اولًا فلانّانسلّم دلالة هذه الاخبار علی الاجتناب فی خصوص شبهة نفس الحكم ولكن ما تفعل بالادلّة الاخر من الاخبار الدّالة علی الاجتناب من الشبهات مع صدق الشبهة علی ما نحن فیه لغة وعرفاً.
وامّا ثانیاً فلانّه لا شكّ ان الشبهة فی طریق الحكم إذا كانت مما اشتبه علینا بأنّ هذا الفرد داخل تحت النّوع المحرّم والمباح یصدق علیه انّه مما یحتمل الحرمة والاباحة فیشمله هذه الاخبار.
امّا الوجه الرابع، فیرد علیه انّ هذا الجمع لیس بصحیح مطلقاً لانّه مستلزم لطرح الآیات والاخبار الدّالة علی الاباحة فیما لا نصّ فیه كما عرفت فیما سبق، ومستلزم لطرح الاخبار الدالّة علی الاجتناب من الشبهة ایضاً، لانّ الشبهة صادقة علی ما اشتبه فیه الموضوع، مع انّكم اخرجتموه من حكم الشبهة بل الجمع الصّحیح بین الادلّة هو الّذی ارتكبه الاصولیون اعنی حمل اخبار اجتناب الشبهة مطلقاً علی الاستحباب وبقاء الاخبار الدّالة علی
جامعة الأصول، ص: 153
الاباحة علی حالها لموافقتها للقرآن والادلّة العقلیّة ودعوی الاجماع، وقد عرفت تحقیق الكلام فی هذا المقام قبل ذلك.
وامّا الوجه الخامس، فیرد علیه انّ انحصار سؤال النّبی والائمّة (علیهم السّلام) فی نفس الحكم الشرعی ممنوع بل كثیراً كان الصّحابة یسألون عنهم (علیهم السّلام) حكم موضوعات الاحكام وكانوا صلوات اللَّه علیهم یجیبونهم والاخبار الواردة فی موضوعات الاحكام كثیرة جدّاً وقد مرّت جملة منها، ونحن لا نشكّ فی انّه یمكن استعلام طریق الحكم باللغة والعرف و امور اخری ولكن كثیراً ما یشتبه بحیث لا یمكن استعلامه بالامور المذكورة، ولا شكّ انّه إذا امكن الوصول إلی المعصوم (علیه السّلام) یجب السؤال عنه.
سلمنا انّ طریق الحكم لا یسأل من المعصوم (علیه السّلام) بل ما یسأل عن (علیه السّلام) منحصر بنفس الحكم الشرعی، ولكن كیف یحكم بوجوب التوقّف فیما لا نصّ فیه مع ورود الآیات والاخبار الكثیرة المعاضدة بالعقل والاجماع علی الاباحة فیه؟ فهل اخبار التوقّف راجحة علیها حتی ناخذ بها ونطرح جمیع هذه الامور الدّالة علی الاباحة فیه؟
وامّا الوجه السادس، فیرد علیه، امّا اولّا فبأنّ الاجتناب عن الشبهة فی نفس الحكم الشرعی إذا كان امراً ممكناً مقدوراً كیف یصیر علّة لوجوب الاجتناب بعد ورود الآیات والاخبار الكثیرة المعاضدة بالعقل والاجماع علی الاباحة فیها.
وامّا ثانیاً فلانّ عدم الامكان والقدرة علی الاجتناب عن الشبهة فی
جامعة الأصول، ص: 154
طریق الحكم ممنوع لما عرفت فی الجواب عن الوجه الثانی.
وامّا الوجه السابع، فیرد علیه انّ ثبوت اجتناب الحرام عقلًا ونقلًا مسلّم ولكن هذا لا یدلّ علی وجوب الاجتناب عن الشبهة فی نفس الحكم بعد ورود الآیات والاخبار الكثیرة علی الاباحة فیها.
وما ذكره من انّ مالایتمّ الواجب الّا به وكان مقدرواً فهو واجب.
ففیه امّا اوّلًا عدم تسلیم كون ما نحن فیه من هذا القبیل.
وامّا ثانیاً فلان هذا یرد بعینه فی الشبهة فی طریق الحكم ایضاً.
وامّا ثالثاً فلانّ هذا مسلّم فیما لم یقم دلیل علی خلافه، وما نحن فیه لیس كذلك لقیام الادلّة الكثیرة من الآیات القرآنیّة والاخبار المعصومیّة (علیهم السّلام) والمقدّمات البرهانیّة الیقینیّة علی انّ الأصل فیها الاباحة، كما عرفتها فلا یبقی لهذا الكلام وقع حینئذٍ مطلقاً.
فظهر انّ الحقّ الحقیق بالاتّباع عدم الفرق بین الشبهة فی نفس الحكم والشبهة فی موضوعه، بل الحكم فی كلیهما واحد وهو الاباحة كما ذهب إلیه المجتهدون رضوان اللَّه علیهم.
وظهر بما ذكرنا جواب ما قال الشیخ الفاضل المذكور (قدّس سرّه) فی كلیّاته ایضاً حیث قال بعد ذكر جملة من الاخبار الدّالة علی عدم وجوب الاجتناب عن الشبهة:
اقول: والاحادیث فیه كثیرة ولا ینافی ما مرّ فی وجوب التوقّف والإحتیاط فی نفس الحكم الشرعی عند عدم العلم به لانّ هذه الاحادیث
جامعة الأصول، ص: 155
مخصوصة بموضوعات الاحكام كما هو ظاهر من الامثلة وذكر البیّنة وغیر ذلك، وتلك الاحادیث مخصوصة بنفس الحكم الشرعی.
الا تری انّ قولهم (علیهم السّلام) هنا «كلّ شی‌ء فیه حلال وحرام» فعلم انّ المفروض نوع منقسم إلی حلال وحرام وافراده مشتبهه الاتری إلی قولهم (علیهم السّلام) هناك «حلال بیّن وحرام بیّن وشبهات بین ذلك» فلولا كان موضوعات الاحكام وافرادها مراداً لم یكن للحلال البیّن وجود ولا للحرام البیّن، لاختلاط افراد الحلال بالحرام واشتباهها بها من زمان آدم (علیه السّلام) إلی الآن، ویلزم [من ذلك] ایضاً تكلیف ما لا یطاق لعدم امكان اجتناب الجمیع [والاحادیث فی المقامین دالّة علی ما قلناه دلالة واضحة ظاهرة]- انتهی- «1».
وبعد الاحاطة بما ذكرناه جوابه ظاهر فی كمال الظهور.

[الشبهة المحصورة و غیر المحصورة]

ثمّ انّ جمیعاً من المجتهدین جعلوا الشبهة فی موضوع الحكم علی قسمین:
احدهما: الشبهة فی المحصور.
______________________________
(1) الفصول المهمّة للشیخ الحرّ العاملی 1/ 635
جامعة الأصول، ص: 156
وثانیهما: الشبهة فی غیر المحصور واوجبوا الاجتناب فی الاولی دون الثانیة فلابدّ ان نشیر إلی ما هو الحقّ.
فنقول: غرضهم من المحصور ما یعدّه العرف محصوراً وكذا غرضهم من غیر المحصور، والّا فكلّ عدد فرض كائناً ما كان یكون متناهیاً.
وإذا عرفت ذلك فهؤلاء المفصّلون یقولون إذا حصل الشبهة بین امور یحكم العرف بانّها اعداد محصورة یجب الاجتناب عنها جمیعاً كالانائین اللّذین كان أحدهما نجساً واشتبه بالاخر، والثوبین كذلك، والدّرهمین اللّذین كان أحدهما مغصوباً واشتبه بالاخر، والمكانین اللّذین علم نجاسة أحدهما قطعاً واشتبه بالاخر الطّاهر، إلی غیر ذلك من الامثلة الّتی یحكم العرف بكون ما وقع فیه الاشتباه اعداد محصورة، بخلاف ما لا یحكم العرف كذلك كما إذا اشتبه اناء واحد نجس بالاوانی الكثیرة الطّاهرة كخمسین مثلًا أو ستین أو اقل أو اكثر ممّا یعدّه العرف غیر محصور بمعنی انّ حصرها متعسّر.
واستدلّوا بانّه لا شكّ فی وجود النجس القطعی والحرام القطعی بین الامور المذكورة فالحكم بحلّیّة المجموع أو طهارته مستلزم لحلیّة ما هو حرام قطعاً ونجس قطعاً وهو باطل والحكم بحلیّة احدها دون الآخر ترجیح بلا مرجّح.
ولما اورد علیهم بأنّ هذا جاء بعینه فی غیر المحصور ایضاً لانّه لا
جامعة الأصول، ص: 157
شكّ فی تحقیق الحرام القطعی بین الامور الغیر المحصورة بحسب العرف فالحكم باستعمال الجمیع مستلزم لاستعمال ما هو حرام قطعّی أو نجس قطعی وهو ایضاً باطل والحكم بحلّیّة احدها دون الاخر مستلزم للترجیح بلا مرجّح وهو ایضاً باطل.
اجابوا بانّه یمكن الاجتناب عن المحصور بحیث لا یلزم الحرج المنفیّ بخلاف الاجتناب عن غیر المحصور فإنّ التنزّه عن الجمیع مستلزم للحرج المنفیّ.
والجواب امّا اوّلًا انّ هذا مجرّد دعوی لا شاهد له فإنّ الاجتناب عن امثال هذه الامور لا ینجرّ إلی الحرج مطلقاً، بل بهذا الاعتبار لا فرق بین المحصور وغیره لانّه كما یمكن الاجتناب إذا اشتبه آنیة واحدة نجسة بآنیة اخری طاهرة فكذلك یمكن الاجتناب بعنیه إذا اشتبهت بأوان كثیرة من دون حرج وعسر، والرجوع إلی ماء اخر أو إلی التیمّم وهذا ظاهر.
وامّا ثانیاً فلأنّ وجود الحرام القطعی أو النجس القطعی بین الامور المذكورة أو الامرین المذكورین لا یستلزم وجوب الاجتناب عن المجموع، لانّ هذا یدلّ علی وجوب الاجتناب مما یحصل به القطع باجتناب الحرام أو النّجس، وانّما یحصل ذلك بارتكاب جمیع الامور الّتی حصل فیها الاشتباه، فإذا كان ما حصل فیه الاشتباه انائین أو ثوبین أو درهمین لا یحصل القطع الّا باستعمالهما معاً وامّا باستعمال أحدهما فلا یحصل القطع المذكور، بل لامانع من استعمال أحدهما بناء علی انّ
جامعة الأصول، ص: 158
الأصل فی الشبهة فی طریق الحكم الاباحة. وكذا الحكم بعینه إذا كان ما حصل فیه الاشتباه اكثر من اثنین فإنّه یجوز استعمال كلّ واحد واحد إلی ان بقی واحد فحینئذٍ لا یجوز استعماله لانّه یؤدّی إلی القطع المذكور.
فإن قیل: كلّ واحد من النّجاسة والحرمة تكلیف یجب فیهما الامتثال ولا یحصل الامتثال الّا بترك جمیع المحتملات من باب مقدّمة الواجب.
قلنا:
اوّلًا فبانّ هذا وارد فی صورة غیر المحصور ایضاً والقول بلزوم الحرج قد عرفت فساده.
وامّا ثانیاً فلأنّ وجوب مقدّمة الواجب انما هو مسلّم فیما كان واجب یقینی متعیّن ولم یحصل الّابارتكاب امر آخر وما نحن فیه لیس كذلك.
وامّا ثالثاً فلانّا سلّمنا انّ ما نحن فیه من باب مقدّمة الواجب لكن نقول ترك «1» مقدّمة الواجب واجب مالم یقم دلیل علی خلافه وهنا دلّ الادلّة الدّالة علی انّ الأصل فی الشبهة فی طریق الحكم الاباحة علی استثناء ما نحن فیه فتأمّل.
ویمكن الاستدلال ایضاً للمفصلین بأنّ فی الشبهة فی المحصور یتحقّق العلم فی الاكثر بارتكاب جمیع المحتملات فیحصل العلم القطعی باستعمال النّجس أو الحرام بخلاف غیر المحصور فإنّه لا یتحقّق العلم فیه عادة باستعمال جمیع المحتملات وان حصل بالنّسبة إلی جمیع المكلّفین،
______________________________
(1) الظاهر زیادة كلمة «ترك»
جامعة الأصول، ص: 159
وهذا غیر مضرّ لانّ كلّ أحد مكلّف بعلم نفسه، فالمعیار حصول العلم له باستعمال النّجس أو الحرام، ولذا فرق بین واجدی المنی فی الثوب المشترك وبین من كان له ثوبان وكان أحدهما نجساً فإنّه یجب علیه الاجتناب عن كلیهما حتی یحصل الامتثال، بخلاف الاوّل فإنّه لا یجب علی كلّ واحد منهما الاجتناب عن الثوب المذكور.
اقول: وبعدما عرفت ما ذكرنا تعرف ما فی هذا الكلام من الاختلال وعدم الانتظام فإنّ بناء أدلّة البراءة علی انّه ما لم یحصل العلم بالحرمة والنجاسة لا یجب الاجتناب، فالمحصور وغیر المحصور ان بقی منهما فرد كان بحیث إذا ارتكبه المكلّف حصل العلم القطعی بارتكاب جمیع المحتملات ویحصل العلم بارتكاب الحرام أو النّجاسة یجب الاجتناب عن هذا الفرد والّا حصل العلم القطعیّ بارتكاب الحرام أو النّجاسة الواقعیین وخرج حینئذٍ من الشبهة، وان لم یكن الفرد الّذی یرتكبه المكلّف ممّا یحصل بارتكابه العلم المذكور فلیس الاجتناب واجباً لما عرفت.
فحصول العلم العادی باستعمال النّجس أو الحرام فی المحصور ان كان بالنّسبة إلی بعض الافراد فممنوع وهو ظاهر، وان كان بالنسبة إلی كلّ الافراد فمسلّم، ولكن الحكم فی غیر المحصور ایضاً كذلك، والمثالان المذكوران لا فرق بینهما مطلقاً لانّ كلّ واحد من الثوبین الّذین كان أحدهما نجساً كما یحتمل ان یكون نجساً وبهذا الاعتبار كان الاجتناب
جامعة الأصول، ص: 160
علی المكلّف واجباً فكذلك یحتمل ان یكون المنّی المذكور من كلّ واحد من الرجلین فیجب علی كلّ واحد منهما الاجتناب.
وبالجملة الحقّ انّه لا فرق بینهما لانّه إذا بنی‌الامر علی أصل البراءة فیجب ان یحصل العلم بالتكلیف حتی یجب الاجتناب وفی كلّ واحد واحد من افراد المحصور و غیر المحصور لا یحصل هذا العلم، فما لم ینجرّ إلی ارتكاب جمیع الافراد لا یحصل العلم المذكور، والفرق بأنّ حرمة أحد الفردین فی المحصور قطعیّة فیجب ترك الفرد الاخر من باب المقدّمة لعدم عسر وحرج بخلاف غیر المحصور فإنّه وان كان‌افراده حراماً قطعیّاً الّا انّه ان كان جمیع الافراد تركه واجباً من باب المقدّمه یلزم الحرج والعسر المنفییّن، قد عرفت فساده مراراً.
فالحقّ انّه ما لم یحصل العلم لا یجب الكفّ سواء كان فی المحصور أو غیره.
و یدلّ علیه ما ورد فی بعض الاخبار «1» انّه لایجب فی اوّل الامر الفحص عن النّجاسه بانّها هل بلغت البدن أو الثوب، بل ولایجب عند امارة ایضاً حتی یحصل العلم.
ویدلّ علیه ایضاً روایة عبد اللَّه بن سنان المتقدّمة حیث قال (علیه السّلام): كلّ شی‌ء یكون فیه حلال وحرام فهو حلال لك ابداً حتی تعرف الحرام
______________________________
(1)-
جامعة الأصول، ص: 161
منه بعینه فتدعه «1».
وما روی فی الصّحیح عن أحدهما (علیهما السّلام) عن شراء الخیانه والسّرقة قال: لا الّا ان یكون قد اختلط معه غیره وامّا السّرقة بعینها فلا «2».
وما ورد فی موثّقة [اسحاق بن] عمّار من جواز الاشتراء عن العامل الّذی یظلم مالم یعلم انّه ظلم فیه أحداً «3».
وما ورد ایضاً من جواز الاشتراء من العامل الّذی یعلم انّه یأخذ اكثر من الحقّ حتی تعرف الحرام بعینه «4».
ولقد نطق بالحقّ السیّد السنّد حیث قال بعد قول المصنّف: وإذا كانت النّجاسة فی موضع محصور كالبیت وشبهه وجهل موضع النّجاسة لم یسجد علی شی‌ء منه- الی آخره-:
هذا الحكم مقطوع به فی كلام الاصحاب، واحتجّوا علیه بأنّ المشتبه بالنّجس قد امتنع فیه التمسّك باصالة الطهارة للقطع بحصول النّجاسة فیما وقع فیه الاشتباه فیكون حكمه حكم النّجس فی انّه لا یجوز السّجود علیه ولا الانتفاع به فی شی‌ء یشترط فیه الطّهارة. وفیه نظر.
امّا اوّلًا: فلانّ أصالة الطّهارة انّما امتنع التمسّك بها بالنّسبة إلی
______________________________
(1)-
(2)-
(3) الكافی 5/ 228. الوسائل 17/ 221
(4)-
جامعة الأصول، ص: 162
مجموع ما وقع فیه الاشتباه لا فی كلا جزء من اجزائه فانّ ای جزء فرض من الاجزاء الّتی وقع فیها الاشتباه مشكوك فی نجاسته بعد ان كان متیقّن الطّهارة، والیقین انّما یخرج عنه بیقین مثله وقد روی زرارة فی الصّحیح عن أبی‌جعفر (علیه السّلام) انّه قال: لیس ینبغی لك ان تنقض الیقین بالشكّ ابداً «1».
وامّا ثانیاً فلانّ ذلك آتٍ بعینه فی غیر المحصور فلو تمّ لا قتضی عدم جواز الانتفاع به فیما یفتقر إلی الطهارة وهو معلوم البطلان.
ومن العجب ذهاب بعض الاصحاب إلی بقاء الملاقی لبعض المحلّ المشتبه من المحصور علی الطّهارة لعدم القطع بملاقاة النّجاسة واطباقهم علی المنع من السجود علیه مع انتفاء ما یدلّ علی طهارة محلّ السّجود كما بینّاه فیما سبق. وبالجملة فالمتّجه جواز السّجود علی مالم یعلم نجاسته بعینه وعدم نجاسة الملاقی له تمسّكاً بمقتضی الأصل السّالم من المعارض- انتهی- «2».
وقال رحمه اللَّه ایضاً بعد قول المصنّف ویجوز فی المواضع المتّسعة «دفعاً للمشقّة»- الی آخره-.
اشار بقوله: دفعاً للمشقّة إلی انتفاء النّص علی الفرق بین المواضع المتّسعة وغیرها وان عدم وجوب الاجتناب فی المواضع المتّسعة انّما هو
______________________________
(1) الوسائل 3/ 466 نقلًا عن التهذیب والاستبصار
(2) مدارك الأحكام، الطبع الحجری ص 38، من كتاب الصلاة
جامعة الأصول، ص: 163
للمشقّة اللّازمة من التكلیف باجتنابه، ویشكل بانتفاء المشقّة فی كثیر من الصّور، وبانّ الدّلیل المتقدّم الدّال علی وجوب الاجتناب فی المحصورات [جارٍ] فی غیره كما بیّناه والمشقّة بمجرّدها لا یقتضی طهارة ما دلّ الدّلیل علی نجاسته.
والّذی یقتضیه النظر عدم الفرق بین المحصور وغیره وانّه لا مانع من الانتفاع بالمشتبه فیما یفتقر إلی الطهارة إذا لم یستوعب المباشرة بجمیع ما وقع فیه الاشتباه.
ثمّ ان قلنا بالفرق فالمراد بغیر المحصور ما كان كذلك فی العادة بمعنی تعسّر حصره وعدّه لا ما امتنع حصر، لانّ كلّ ما یوجد من الاعداد هو قابل للعدّ والحصر. واللَّه تعالی اعلم- انتهی كلامه رفع مقامه- «1».
وهو جیّد غایة الجودة ومتین غایة المتانة.
______________________________
(1) مدارك الأحكام الطبع الحجری ص 38 من كتاب الصلاة
جامعة الأصول، ص: 165

الفصل الرابع فی إستصحاب حال العقل‌

اعلم ایّدك اللَّه بتأئیده وجعلك من خلّص عبیده انّ من الامور الّتی لا ینبغی ان یشكّ فیها اولوا البصائر ان كلّ ممكن من الممكنات وان شئت قلت ان كلّ حادث من الحوادث مسبوق بالعدم وهذه المسبوقیّة امر یقینی فكلّ شی‌ء یثبت انّه حادث یثبت له العدم السّابق علیه ایضاً وهذا معنی كون العدم اصلًا بالنّسبة إلی الحادث ثمّ لا یخفی انّ الاعدام ثابتة للممكنات إلی ان یثبت علّة الوجود ویخرجها من العدمیّة الصّرفة واللیسیّة المحضة إلی الموجودیة الخارجیّة والایسیّة العینیّة فإذا حصل العلم بأنّ علّة من العلل الوجودیّة اوجد معدوماً من
جامعة الأصول، ص: 166
معلولاته یحصل الجزم بأنّ عدمه الّذی كان ازلیّاً متسمرّاً زال وانقلب إلی الوجود ولا كلام فیه. وكذا إذا حصل العلم بأنّ علّة وجود المعدوم الكذائی لم یثبت یحصل الجزم ببقائه علی عدمه المستمرّ الّذی كان ثابتاً له ولا كلام فیه ایضاً.
انّما الكلام فی انّه إذا حصل الشكّ فی وجود حادث من الحوادث فهل یصحّ لنا الحكم بعدم وجوده بناء علی انّ عدمه السّابق الثابت له امر قطعی یقینی فوجوده امر مشكوك أم لا یصحّ لنا الحكم بذلك بناء علی امكان حدوثه من علّته وعدم اطّلاعنا علی ذلك.
اقول: طریق الاستدلال بإستصحاب حال العقل هو ان یقال: العدم كان متحقّقاً لهذا الحادث والأصل استمراره إلی هذا الآن وهذا الاستدلال مركّب من جزئین.
احدهما: تحقّق العدم لهذا الحادث وهو امر یقینی لا كلام فیه. جامعة الأصول 166 الفصل الرابع فی إستصحاب حال العقل
انیهما: ابقاء هذا العدم إلی هذا الآن.
و یمكن اثبات هذا الجزء بامرین، ان كان الحادث المقصود نفیه حكماً من الاحكام الشرعیّة وجوباً كان أو استحباباً أو حرمة أو كراهة أو اباحة:
احدهما: الاخبار الكثیرة المستفیضة الدّالّة علی انّ الیقین لا یترك بالشكّ، بل لا یزول الیقین الّا بیقین مثله. ولا شكّ ان عدم هذا الحكم كان یقینیّاً فلا یقاومه الشكّ فی امكان وجوده، وسیمرّ بك ان شاء اللَّه العزیز
جامعة الأصول، ص: 167
شطر من هذه الاخبار وما یتعلّق بها من القیل والقال فی إستصحاب حال الشرع.
وثانیهما: انّه لا شكّ انّ عدم هذا الحكم كان ثابتاً متحقّقاً فصدور هذا الحكم من الشارع وتكلیفه النّاس به یحتاج إلی الاعلام والّا لزم تكلیف مالا یطاق والتكلیف بما لا یعلم وهو باطل كما عرفت من الآیات والاخبار والادلّة العقلیّة فالفقیه إذا تفحّص الأدلّة العقلیّة وتتبّع الامارات ولم یجد مستند شرعیّاً لاثبات حكم من الاحكام الشرعیّة فیصحّ له الحكم بأنّ الأصل بقاء عدمه إلی الآن والّا لزم تكلیف ما لا یطاق.
ثمّ انّ هذا الحكم ان كان ما یعمّ به البلوی فیصحّ له الحكم بعدمه فی الواقع ونفس الامر لانّه لا شكّ انّ جمعاً كثیراً غایة الكثرة كانوا ملازمین لائمّتنا صلوات اللَّه علیهم اجمعین فی مدّة تزید علی ثلاثمائة سنة وكان اهتمامهم واهتمام الائمّة (علیهم السّلام) بیان المسائل الشرعیّة واظهار الاحكام الالهیّة. وقد نقل المحقّق (قدّس سرّه) فی المعتبر أنّ تلامذة الصّادق صلوات اللَّه وسلامه علیه كانوا اربعة آلاف رجل «1» ومع ذلك إذا لم یجد الفقیه بعد تفحّصه وتجسّسه دلیلًا علی ثبوت حكم من الاحكام الّتی یعمّ بها البلوی یحصل له الظنّ المتاخم للعلم بأنّ هذا الحكم معدوم فی الواقع والّا لاشتهر وذاع وذلك فی مثل وجوب قصد سورة معیّنة عند البسملة
______________________________
(1) المعتبر ص 5 الطبع الحجری و هذه عبارته: و روی عنه من الرجال ما یقارب اربعة الاف رجل ...
جامعة الأصول، ص: 168
ووجوب نیّة الخروج، فإنّ الفقیه إذا تتبّع الادلّة الشّرعیّة وتفحّص الامارات النقلیّة ولم یجد مستنداً علی هذین الوجوبین مع عموم البلوی بهما ووجوب احتیاج النّاس الیهما یصحّ له الحكم بعدم هذین الوجوبین فی الواقع ونفس الامر.
وامّا إذا لم یكن الحكم ممّا یعمّ به البلوی فلا یصحّ الحكم بعدمه فی الواقع ونفس الامر، بل عدم الدّلیل بعد الفحص یدلّ علی براءة ذمّتنا عنه وعدم تكلیفنا به وان امكن ان یكون فی الواقع ونفس الامر واجباً أو غیره من الاحكام الخمسة، وذلك لما عرفت من انّ لكلّ واقعة من الوقائع ولكلّ مسألة من المسائل حكماً واقعیاً عند ائمّتنا الراشدین صلوات اللَّه علیهم اجمعین الّا أنّهم (علیهم السّلام) لم یتمكّنوا من اظهار الجمیع للتقیّة والخوف، فیمكن ان یكون هذا الحكم عند الائمّة (علیهم السّلام) واجباً أو غیره من الاحكام الخمسة الّا انّه لم یبلغنا، ولكن لاجل عدم البلوغ الینا لسنا مكلّفین به لقبح التكلیف بما لا یعلمه المكلّفون.
ویدلّ علی هذا القسم من الإستصحاب الادلّة الدّالة علی أصل البراءة لانّه إذا ثبت انّ الأصل براءة الذمّة من الوجوب والحرمة یثبت ایضاً انّ عدمها مستصحب.
ولكن جریان هذه الادلّة انّما یكون فی صورة یكون الحادث الّذی نرید نفیه بالإستصحاب حكماً من الاحكام الشرعیّة وامّا إذا لم یكن حكماً شرعیّاً.
جامعة الأصول، ص: 169
فإن كان من متعلّقات الحكم الشرعی كالنقل فی قولنا الأصل عدم النّقل فیجری فیه الادلّة المذكورة ایضاً كما لا یخفی لانّ ثبوت النقل مثلًا مستلزم لثبوت حكم شرعی وهو منفیّ بالادلّة المذكورة.
وامّا إذا لم یكن من متعلّقات الحكم الشرعی ایضاً بل كان الحادث من الحوادث الّتی لیست حكماً شرعیّاً ولا من متعلّقاته، كما إذا وقع الشكّ فی انّه هل حدثت الواقعة الفلانیّة فی البلدة الفلانیّة؟ فالواقعة الفلانیّة من الحوادث الّتی لا دخل لها بالاحكام الشرعیّة، فلا ریب انّه لا یمكن نفی هذه الواقعة بالإستصحاب لانّ الادلّة المذكورة لا یجری فیه، لانّ مبنی الادلّة المذكورة علی نفی التكلیف أو ما یستلزمه.
ولا یوجد دلیل عقلی یدلّ علی ذلك لانّ غایة ما یمكن ان یستدلّ به ان یقال: انّ عدم هذا الحادث یقینییّ ووجوده مشكوك والشكّ لا یقاوم الیقین.
وفیه انّ وجوده إذا صار مشكوكاً یصیر عدمه فی الآن ایضاً مشكوكاً وان كان عدمه السّابق یقینیّاً، فلا یمكن ابقاء العدم السّابق علی ما كان.
جامعة الأصول، ص: 171
الفصل الخامس فی استصحاب حال الشرع‌

الفصل الخامس فی إستصحاب حال الشرع‌

اشارة

وقد علمت أنّه عبارة عن ابقاء حكم ثبت من جانب الشریعة علی ما كان.
و فی هذا الفصل ابحاث:

البحث الاوّل فی نقل الاقوال والاشارة إلی ما هو الحقّ.

اعلم انّه قد اختلف فی حجیّة الإستصحاب ففیه اقوال:
الاوّل: انّه حجّة مطلقاً ذهب إلیه اكثر المحقّقین من الخاصّة والعامّة كالشیخ المفید والعلامّة من الخاصّة والغزالی والمزنی والصیرفی من العامّة بل ذهب إلیه الشافعیّة قاطبة.
جامعة الأصول، ص: 172
الثانی: انّه لیس بحجّة مطلقاً ذهب إلیه سیّدنا المرتضی رضی اللَّه عنه وإلیه ذهب أبوالحسین البصری واكثر الحنفیّة.
والعجب انّ بعض اصحابنا «1» نسب الثانی إلی الأكثر مع انّ الامر بالعكس كما لا یخفی علی المتتبّع.
قال زین المحقّقین طاب ثراه فی التمهید: إستصحاب الحال حجّة عند الاكثر «2».
وقال ابن الحاجب: الإستصحاب، الاكثر كالمزنی والصیرفی والغزالی علی حجیّته.
وقال الشارح العضدی: اكثر المحقّقین كالمزنی والصیرفی والعزالی علی حجیّته «3».
وقال صاحب المعالم: وهو- یعنی حجیّته- اختیار الاكثر «4».
وقد شهد بذلك جمع اخر من المتتبعین المتطلعین، فكلام هؤلاء المتفحصین مع التتّبع الصّادق والتفحّص اللائق یعطی بأنّ القول بحجیّة الإستصحاب مما ذهب إلیه الاكثر.
الثالث: ما ذهب إلیه الفاضل النحریر صاحب الذخیرة وهو- كما اشرنا
______________________________
(1) وهو الفاضل التونی فی الوافیة ص 200
(2) تمهید القواعد ص 271 وفیه: عند اكثر المحققین.
(3) راجع الوافیة ذیل ص 200
(4) معالم الدین ص 520 طبع 1414
جامعة الأصول، ص: 173
إلیه قبل ذلك- انّ الإستصحاب الّذی ثبت حجیّته انّما هو فی صورة حصل الشكّ فی وجود المزیل القطعی دون ما إذا حصل الشكّ فی كون الشی‌ء مزیلًا مع الیقین بوجوده، وغرضه (قدّس سرّه) انّ الإستصحاب الّذی حجّة هو الإستصحاب فی موضوع الحكم الشرعی دون الإستصحاب فی نفس الحكم الشرعی.
الرابع: ما ذهب إلیه افضل المتأخرین اعنی المحقّق الخوانساری فی شرح الدّروس وهو انّ الإستصحاب الّذی حجّة هو ان یكون دلیل شرعی علی انّ الحكم الفلانی بعد تحقّقه ثابت إلی حدوث حال كذا أو وقت كذا مثلًا معیّن فی الواقع بلا اشتراطه بشی‌ء اصلًا، فحینئذٍ إذا حصل ذلك الحكم یحكم باستمراره إلی ان یعلم وجود ما جعل مزیلًا له ولا یحكم بنفیه بمجرّد الشكّ فی وجوده- انتهی- «1».
وغرضه (قدّس سرّه) انّ الإستصحاب الّذی ثبت حجیّته هو ما إذا كان الحكم مغیّی بغایة معیّنة من وقت معْیّن أو حالة معیّنة ووقع الشكّ فی حدوث تلك الغایة فیحكم بنفی تلك الغایة وثبوت الحكم بالإستصحاب وفیما سوی ذلك من الاحكام الشرعیّة لا یمكن اثباته بالإستصحاب.
الخامس: ما ذهب إلیه الفاضل التونی فی الوافیة وهو انّه لا یمكن اجراء الإستصحاب فی الاحكام الشرعیّة وانّما یجری الإستصحاب فی
______________________________
(1) شرح الدروس ص 76 ذیل قول المصنّف: ویجزی حجر ذوالجهات الثلاث (فی الاستنجاء)
جامعة الأصول، ص: 174
بعض الاحكام الوضعیّة وبتبعیّتها یجری فی الاحكام الشّرعیّة «1» فهذه هی الاقوال الّتی وصلت الینا فی هذه المسألة.
والحقّ علی ما ثبت عندی الحجیّة مطلقاً الّا انّ حجیّته فی بعض المواضع الّتی یجری فیها الإستصحاب علی سبیل الجزم وفی بعضها علی سبیل الظنّ.
بیان ذلك انّ العمدة فی ادلّة الإستصحاب امران:
الاوّل: الاخبار الكثیرة المستفیضة الواردة بأنّ الیقین لا ینقض بالشكّ.
والثانی: احتیاج شغل الذمّة الیقینی إلی البراءة الیقینیّة.
وهذان الدلیلان- كما ستعلم ان شاء اللَّه- یجریان فی المواضع الّتی كان الدّلیل الدّال علی تحقق الحكم المستصحب فیه دالًّا علی ثبوت الحكم فی الزمان المكشوك فیه، بمعنی انّ الدّلیل المذكور فی اوّل الامر مع قطع النّظر عن الشكّ الّذی وقع، یكون شاملًا لثبوت الحكم المذكور فی الزّمان المشكوك فیه، بحیث لو رفع الشكّ المذكور لحصل الجزم بالحكم المذكور فی الزّمان المشكوك فیه.
فكلّ موضع كان الامر فیه كذلك یجری فیه هذان الدّلیلان مع الدّلیلین الاخرین اللذین نذكرهما ان شاء اللَّه، فیحصل الجزم بحجیّته فیها وكلّ موضع لم یكن كذلك وهو الموضعان الاخیران اللّذان یمكن اجراء الإستصحاب فیها ونذكرهما فی البحث الثانی ان شاء اللَّه لا یجری
______________________________
(1) الوافیة 200- 203
جامعة الأصول، ص: 175
فیه هذان الدّلیلان، بل یجری فیه الدّلیلان الآخران، وهما الاستقراء وحصول ظنّ البقاء، كما نذكرهما مفصّلًا ان شاء اللَّه، وهذان الدّلیلان لا یفیدان الّا الظنّ، فحجیّة الإستصحاب فی هذین الموضعین اللّذین دلیلهما منحصر بهذین الطریقین ظنیّة، مع انّه یمكن منع جریان دلیل الاستقراء فیهما، فتأمل. وسننقل ان شاء اللَّه ادلّة كلّ منهما ونأتی بما هو الحقّ.

البحث الثانی فی بیان المواضع الّتی یمكن اجراء الإستصحاب فیها والّتی لا یمكن فیها ذلك.

امّا المواضع التی یمكن فیها جریان الإستصحاب فنقول: الإستصحاب امّا ان یجری فی الاحكام الشرعیّة أو الوضعیّة ولایضرّنا هنا كون الاحكام الوضعیة راجعة إلی الاحكام الشرعیّة أو غیر راجعة الیها لعدم مدخلیّة ذلك لما هو نحن بصدده وان كان عند المحقّقین راجعة الیها.
وعلی كلّ من التقدیرین فالحكم الصادر من الشارع امّا مغیّی بغایة مخصوصة أو لا، وعلی الاوّل لا فرق بین ان یكون تلك الغایة وقتاً مخصوصاً كأن تقول: افعلوا الفعل الفلانی إلی وقت كذا أو الامر الفلانی سبب أو شرط أو مانع للفعل الفلانی إلی وقت كذا، أو حالة مخصوصة
جامعة الأصول، ص: 176
كأن تقول: افعلوا الفعل الفلانی إلی حدوث حالة كذا أو الامر الفلانی سبب أو شرط أو مانع للفعل الفلانی إلی حدوث حالة كذا. وهذا الشقّ هو الّذی اذعن بحجیّته المحقّق الخوانساری (قدّس سرّه) وامكان جریان الإستصحاب فیه ظاهر لانّه إذا وقع الشكّ فی تحقق الوقت المعیّن من الشارع أو فی حدوث الحالة المعیّنة منه یمكن دفع هذا الشكّ بالإستصحاب وابقاء الحكم علی ما كان، لعدم نقض الیقین بالشكّ كما ستعرف إن شاء اللَّه العزیز.
وهذا الشقّ یحتمل وجهین:
احدهما: ان یحصل الشكّ فی وجود المزیل القطعی.
وثانیهما: ان یحصل الشكّ فی كون الشی‌ء مزیلًا مع الیقین بوجوده.
ولا شكّ فی امكان اجراء الإستصحاب فی كلا الوجهین، وصاحب الذخیرة لم ینكر امكان اجراء الإستصحاب فی الاحتمال الثانی، بل انكر حجیّة الإستصحاب فیه وامّا [امكان] اجراء الإستصحاب فیه فامر ظاهر بدیهی لا ینكره أحد من العقلاء.
وعلی الثانی اعنی عدم كون الحكم مغیّی بغایة مخصوصة یحتمل وجوها:
الاوّل: ان نعلم یقیناً انّ ذمّتنا مشغولة بشی‌ء أو اشیاء ثمّ حصل لنا شكّ ببراءة ذمّتنا فیمكن رفع هذا الشكّ بالإستصحاب، ویمكن رفعه ایضاً مع قطع النظر عن الإستصحاب، بأن یقال: شغل الذمّة الیقینی یحتاج إلی
جامعة الأصول، ص: 177
البراءة الیقینیّة من غیر احتیاج إلی ملاحظة الحالة الاولی واجراء الحكم منها إلی الثانیة حتی یكون استصحاباً.
والثانی: ان یكون الحكم الصادر من الشارع عامّاً ومستغرقاً لجمیع الازمنة كان یقول الشارع: الحكم الفلانی واجب أو حرام فی كلّ وقت أو ابداً أو الامر الفلانی سبب او شرط أو مانع للفعل الفلانی فی كلّ وقت أو ابداً.
وهذا ایضاً یمكن اجراء الإستصحاب فیه لانّه إذا وقع الشكّ فی زمان لاجل وجود معارض من العقل أو النقل او شی‌ء آخر بأن الحكم المذكور هل هو ثابت أم لا یمكن دفع هذا الشكّ بالإستصحاب بأن یقال الحكم المذكور قبل ذلك كان ثابتاً جزماً فكذا فی هذا الوقت، لانّ الشكّ لا یقاوم الیقین كما ستعرف من الاخبار إن شاء اللَّه العزیز.
فإن قلت: هذا الشكّ یدفع بعموم النص لا بالإستصحاب لانّ المعارض ان كان مرجوحاً بالنّسبة إلی هذا النّص العامّ فیؤخذ الحكم الّذی یدلّ علیه هذا النّص العامّ وان كان هذا المعارض راجحاً علی هذا النّص العامّ فیؤخذ بهذا المعارض ویطرح النّص العامّ، فالمناط حینئذٍ عموم النّص لا الإستصحاب.
قلت: ما قلت حق الّا انّ ذلك لا یدفع امكان الاستدلال بالإستصحاب ایضاً، فإنّ فی هذا الشقّ كما یمكن الاستدلال بعموم النّص یمكن بالإستصحاب ایضاً كما عرفت.
جامعة الأصول، ص: 178
والثالث: ان یكون مطلقاً یشمل باطلاقه جمیع الازمنة ومن هذا القبیل إذا ورد الحكم المذكور بصیغة الامر بناء علی انّ الامر یفید التكرار وحكمه كحكم العامّ فی امكان جریان الإستصحاب فیه.
ویرد علیه ایضاً ما یرد علی العام وجوابه كالجواب الّذی قلنا هناك بلا تفاوت.
وجمیع هذه المواضع مما یجری فیه جمیع الادلّة الاربعة امّا دلیل الاستقراء وظنّ البقاء فظاهر وامّا الدلیلان الاخران لانّ جمیع هذه المواضع تشترك فی انّ الدّلیل الدّال علی الحكم یشمل الزمان المشكوك فیه بحیث لو قطع النّطر عن الشّك لحصل الجزم بالحكم فی الزّمان المذكور كما لا یخفی علی المتدرّب، فتخصیص ذلك بالموضع الاوّل كما فعله الاستاذ المحقّق الخوانساری لا وجه له وستعلم لهذا إن شاء اللَّه زیادة توضیح وتبیین.
والرابع: ان یكون مجملًا وهذا یحتمل الوجهین:
احدهما: ان یصل الینا من الشارع دلیل یعلم منه ثبوت حكم من الاحكام فی وقت او حالة ولم یعلم جزماً انّ هذا الحكم بعد هذا الوقت أو هذه الحالة هل هو ثابت أم لا؟ بل احتمل عندنا انّ ینقضی هذا الحكم بانقضاء هذا الوقت أو هذه الحالة وان لا ینقضی بانقضائهما بل یدوم ویستمرّ، واحتمل ایضاً ان یكون له غایة ومزیل فی الواقع وان لا یكون له ذلك، وعلی تقدیر احتمال الغایة والمزیل قد یشكّ فی وجود ما یحتمل ان
جامعة الأصول، ص: 179
یكون غایة ومزیلًا وقد یعلم ذلك، وامكان جریان الإستصحاب فیه ظاهر لانّ ثبوت الحكم فی الوقت المقدم أو الحالة المتقدّمة كان یقینیّاً فیمكن ان یستصحب الحكم المذكور.
فإن قیل: جریان الإستصحاب موقوف علی انّه إذا لم یعرض هذا الشكّ لحصل الیقین بالبقاء وهنا لیس الامر كذلك لانّا إذا فرضنا ارتفاع هذا الشكّ لم یحصل الیقین ببقاء الحكم لعدم فهمه من الدلیل الذی وصل الینا من الشارع لأنّ المفروض كذلك وعدم دلیل آخر یدلّ علی ذلك.
قلت: انّه إذا فرض ارتفاع هذا الشكّ یحصل الیقین بالبقاء لانّ عدم عروض الشكّ انّما یكون عند الجزم بتحقیق جمیع اجزاء علّة الوجود وعدم ارتفاع شی‌ء منها ومع تحقق جمیع اجزاء علّة الوجود یحصل الجزم ببقاء المعلول لانّ بقاء المعلول انّما هو ببقاء علّته التامّة وزواله بزوالها والایراد المذكور من المحقّق الخوانساری والجواب الّذی ذكرناه من بعض افاضل المتأخرین وسیجی‌ء لهذا زیادة توضیح إن شاء اللَّه تعالی عند نقل دلیل المحقّق المذكور علی مذهبه.
وثانیهما: ان یصل الینا من الشارع دلیل یعلم منه ثبوت حكم واستمراره فی الجملة ولم یعلم هل هو ثابت دائماً ام لا ولم یعلم هل هو غایة ومزیل أم لا وقد یعلم وجود ما یحتمل غایة ومزیلًا وقد یشكّ فیه وامكان جریان الإستصحاب فیه كما سبق فی الوجه الاوّل.
جامعة الأصول، ص: 180
وهذا ان الوجهان هما اللّذان لا یجریان فیهما الاخبار ودلیل احتیاج شغل الذمّة الیقینی إلی البراءة الیقینیّة، لانّ الظاهر من عدم نقض الیقین بالشكّ وثبوت شغل الذمّة الیقینیّ ان یدلّ دلیل مع قطع النظر عن الشكّ علی ثبوت الحكم یقیناً فی الزّمان الّذی وقع الشكّ فی ثبوت الحكم فیه بحیث لو لم یكن الشكّ حصل الجزم بالحكم فی الزّمان المشكوك فیه كما إذا امرنا الشارع بایقاع الصّوم إلی اللیل وحصل الشكّ فی دخول اللّیل، فإنّ الأصل عدم الدّخول لانّ ذمّتنا مشغولة یقیناً بالصّوم إلی اللّیل فیجب ان یحصل الیقین بدخول اللّیل ولذا هذا الیقین لا ینقض بشكّ الدخول. وكذا الحكم إذا كنّا علی طهارة یقیناً وحصل الشكّ فی عروض الحدوث. وكذا الحكم إذا دلّ الدّلیل من الشارع علی ثبوت الحكم ابداً امّا بنصّه أو بعمومه أو باطلاقه وحصل الشكّ فی زمان لاجل معارض وامّا هذان الوجهان فلیس الامر فیهما كذلك لانّ غایة ما، ولا یدلّ الدلیل فیهما انّ الحكم فی زمان اوله استمرار ما یدلّ علی ثبوته فی الزّمان الّذی وقع فیه الشكّ، فلیس فیه یقین حتی لا ینقص بالشكّ أو یحتاج إلی البراءة الیقینیّة، فاوّل الامر لم یكن فی الزمان المشكوك فیه یقین حتی یحتاج إلی البراءة الیقینیّة ولا ینقض بالشكّ فالمناط فی حجیّة الإستصحاب فی هذین الموضعین هو الدّلیلان الاخران اعنی الاستقراء وظنّ البقاء وسیجی‌ء لهذا زیادة توضیح ان شاء اللَّه عند نقل كلام الاستاذ المحقّق الخوانساری طاب ثراه.
جامعة الأصول، ص: 181
هذه هی المواضع الّتی یمكن جریان الإستصحاب فیها.
والعجب انّ الفاضل التونی «1» انكر ثبوت الإستصحاب فی الاحكام الشرعیّة مطلقاً سواء كانت موقتة أم لا وقد عرفت خلافه وسیجی‌ء زیادة بیان لهذا عند ذكر كلام هذا الفاضل.
وامّا المواضع الّتی لا یمكن اجراء الإستصحاب فیها.
فمنها: ان یعلم ان حكماً من الاحكام سواء كان شرعیّاً أو وضعیّاً ثابت فی وقت خاصّ أو حالة خاصّة بحیث یكون للزمان والحالة مدخل فی هذا الحكم فإنّه لا یمكن اثبات هذا الحكم بعد هذا الزّمان وعند ارتفاع الحالة بالإستصحاب لانّ المفروض انّ هذا الحكم یجب ان یكون فی‌هذا الزّمان وفی هذه الحالة وهذا یحتمل وجهین:
احدهما ان ثبت من الشریعة وجود حكم فی وقت خاصّ أو حالة خاصّة مرّة فقط كوجوب الحجّ عند الاستطاعة فبعد اداء الحجّ لا یمكن الحكم بالوجوب مرّة اخری بالإستصحاب وان كان الاستطاعة باقیة فهذا الوجه لا یمكن اجراء الإستصحاب فیه بوجه من الوجوه.
وثانیهما ان یثبت من الشّریعة وجود حكم عند كلّ وقت خاصّ أو حالة خاصّة كوجوب الصلاة عند كلّ ظهر ووجوب الصّیام عند كلّ شهر رمضان ووجوب الصّلاة عند كلّ كسوف وخسوف
______________________________
(1) راجع الوافیة ص 200
جامعة الأصول، ص: 182
فهذا الوجه لا یمكن اجراء الإستصحاب فیه من جهة ویمكن اجراءه من جهة اخری امّا الاولی فهی انّه إذا انقضی وقت الظهر فی كلّ یوم فلایمكن الحكم بالوجوب فی الوقت الّذی لیس من الظهر بالإستصحاب وهو ظاهر وامّا الجهة الاخری فهی انّ فی كلّ وقت من هذه الاوقات الخاصّة وفی كلّ حالة من هذه الحالات الخاصّة إذا وقع شكّ فی وجوب هذا الحكم یمكن دفع هذا الشكّ بالإستصحاب.
ومنها ان یعلم جزماً ثبوت حكم فی وقت ثان أو حالة ثانیة فلا معنی لاثبات الحكم المذكور فی هذا الوقت الثانی أو الحالة الثانیة بالإستصحاب لانّ المفروض انّ الحكم المذكور ثابت جزماً فیها.
ولا یخفی انّه یمكن اجراء الإستصحاب فیه ایضاً الا انّه لیس له فائدة للقطع بثبوت الحكم. فالإستصحاب غیر مفید هنا فائدة اصلًا.
وههنا شقّ آخر یمكن اجراء الإستصحاب فیه وهو كما اشرنا إلیه سابقاً ان تعلم رطوبة ثوب فكلّ وقت حصل الشكّ فی زوال الرطوبة كما إذا وجد الثوب علی العذرة حال كونه یابساً وحصل الشكّ فی انّه هل كان حین الملاقات بالعذرة رطباً أو یابساً فیمكن ان یقال: انّ وجود الرطوبة قبل الملاقات كان یقینیّاً فكذا حینها بالإستصحاب، الّا انّ الظاهر انّ هذا القسم من الإستصحاب لیس بحجّة لمعارضته لاصالة الطّهارة واصالة عدم الرّطوبة حین الملاقات فستعلم ان شاء اللَّه زیادة توضیح لهذا.
جامعة الأصول، ص: 183

البحث الثالث فی اثبات المذهب الّذی اخترته وهو حجیّة الإستصحاب مطلقاً كما هو المشهور ولنا وجوه من الادلّة:

الاوّل: الاخبار الواردة: بأنّ الیقین لا ینقض بالشكّ وانّ الشكّ لا یقاوم الیقین‌

اشارة

وهی كثیرة غایة الكثرة.
منها: صحیحة زرارة عن الباقر (علیه السّلام) قال: قلت له: الرجل ینام وهو علی وضوء ایوجب الخفقة والخفقتان علیه الوضوء؟ فقال: یازرارة قد ینام العین ولاینام القلب والاذن فإذا نامت العین والاذن والقلب وجب الوضوء. قلت: فإن حرّك إلی جنبه شی‌ء وهو لا یعلم به قال: لاحتی یستیقن انّه قد نام، حتی یجی‌ء من ذلك امر بیّن والّا فإنّه علی یقین من وضوئه، ولاینقض الیقین ابداً بالشكّ ولكن ینقضه بیقین آخر «1».
ولا شكّ انّ جمیع المواضع الّتی ذكرنا انّ الإستصحاب یجری فیها إذا لم یعمل بالإستصحاب یلزم نقض الیقین بالشكّ، فیجب ان یستصحب الحكم فیها حتی لا یلزم ذلك، فیكون الإستصحاب حجّة.
فإن قلت: اثبات المطلوب موقوف علی افادة المفرد المحلّی بالّلام
______________________________
(1) التهذیب 1/ 8 ح 11
جامعة الأصول، ص: 184
العموم، لانّه إذا لم یفد العموم كما هو مذهب المحقّقین فللحضم ان یقول: ان كلّاً من الیقین والشكّ لا یفید العموم فلا یثبت المطلوب.
قلت: الحقّ انّ المفرد المحلّی باللام یفید العموم فی الاحكام الشرعیّة والّا لزم الاهمال وهو غیر مناسب لكلام الحكیم.
قال صاحب المعالم: فاعلم انّ القرینة الحالیّة قائمة فی الاحكام الشرعیّة غالباً علی ارادة العموم منه- ای من المفرد المحلّی بلام الجنس- حیث لا عهد خارجیّ كما فی قوله تعالی: وَ أَحَلَّ اللَّهُ الْبَیْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا «1» وقوله (علیه السّلام): إذا كان الماء قدر كرّ لم ینجسه شی‌ء «2» ونظائره ووجه قیام القرینة علی ذلك امتناع ارادة الماهیّة والحقیقة إذ الاحكام الشرعیّة یجری علی الكلیّات باعتبار وجودها كما علم آنفاً وحینئذٍ امّا ان یراد الوجود الحاصل لجمیع الافراد أو لبعض غیر معیّن، لكن ارادة البعض ینافی الحكمة إذ لا معنی لتحلیل بیع من البیوع وتحریم فرد من الربا وعدم تنجیس مقدار الكر من بعض الماء إلی غیر ذلك من موارد استعماله فی الكتاب والسنّة، فتعین فی هذا كلّه ارادة الجمیع وهو معنی العموم «3» انتهی موضع الحاجة من كلامه.
وهو جیّد فی غایة الجودة.
______________________________
(1) البقرة: 275
(2) الوسائل 1/ 58 ح 1 و 2
(3) معالم الدین 363
جامعة الأصول، ص: 185
هذا مع انّ جمعاً من المحقّقین كنجم الائمّة هو استاذ الفنّ وابن الحاجب فی مختصره صرّحوا بانّه من اداة العموم لغة. ولكن هذا لم یثبت عندی.
فإن قلت: یمكن ان یكون الالف واللام فی كل من الیقین والشكّ للعهد حتی یكون المراد منهما یقین الوضوء وشكّ النوّم وحینئذٍ لا یمكن الاستدلال به علی المطلوب.
قلت: حمل الالف والّلام علی العهد یحتاج إلی قرینة مانعة من ارادة الجنسیّة فمتی انتفت القرینة وجب حمله علی الجنس وقد صرّح ائمّة الفن بذلك قال نجم الائمّة رضی اللَّه عنه: فكلّ اسم دخله الّلام ولا یكون فیه علامة كونه بعضاً من كلّ فینظر ذلك الاسم فإن لم یكن معه قرینة حالیّة ولا مقالیّة دالّة علی انّه بعض مجهول من كلّ كقرینة الشراء الدّالّة علی انّ المشتری بعض فی قولك: اشتر اللّحم ولا دلالة علی انّه بعض معیّن كما فی قوله تعالی: أَوْ أَجِدُ عَلَی النَّارِ هُدیً «1» فهی اللام الّتی جی‌ء بها للتعریف اللفظی والاسم المحلّی بها لاستغراق الجنس ثمّ بعد هذا القول استدلّ علی وجوب حمله علی الاستغراق ثمّ قال: فعلی هذا قوله (صلّی اللَّه علیه و آله): الماء طاهر «2» ای كلّ ماء طاهر والنوم
______________________________
(1) طه: 10
(2) الوسائل 1/ 134 وفیه: الماء یطهر ولا یطهر وجامع الاحادیث 1/ 1
جامعة الأصول، ص: 186
حدث «1» ای كلّ النّوم إذ لیس فی الكلام قرینة البعضیّه لا مطلقة ولامعیّنة انتهی كلامه رفع مقامه «2».
وقال المحقّق التفتازانی: اللّفظ إذا دلّ علی الحقیقة باعتبار وجودها فی الخارج فامّا ان یكون لجمیع الافراد أو لبعضها إذ لا واسطة بینهما فی الخارج فإذا لم یكن للبعضیّة لعدم دلیلها وجب ان یكون للجمیع. والی هذا ینظر صاحب الكشاف حیث یطلق لام الجنس علی ما یفید الاستغراق كما ذكره فی قوله تعالی: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِی خُسْرٍ «3» انّه للجنس وقال فی قوله تعالی: إِنَّ اللَّهَ یُحِبُّ الْمُحْسِنِینَ «4»* انّ اللام للجنس فیتناول كلّ محسن- انتهی «5».
ومنها: صحیحة زرارة قال: قلت: اصاب ثوبی دم رعاف أو غیره أو شی‌ء من منیّ فعلّمت اثره إلی ان اصیب الماء فاصبت وحضرت الصّلاة ونسبت ان بثوبی شیئاً وصلیّت ثمّ انّی ذكرت بعد ذلك قال: تعید الصّلاة وتغسله، قلت: فانّی لم أكن رأیت موضعه وعلمت انّه قد اصابه فطلبته فلم اقدر علیه فلمّا صلّیت وجدته قال: تغسله وتعید.
______________________________
(1) جامع احادیث الشیعة 1/ 127 الطبع الحجری
(2) الوافیة 204 نقلًا عن شرح الكافیة 2/ 129
(3) العصر: 1
(4) البقرة: 195 والمائدة 13
(5) الوافیة 205 نقلًا عن المطوّل: 81
جامعة الأصول، ص: 187
قلت: وان ظننت انّه قد اصابه ولم اتیقن ذلك فنظرت فلم ار شیئاً ثمّ صلیّت فرأیت فیه قال: تغسله ولا تعید الصّلاة. قلت: لم ذلك؟ قال: لانّك كنت علی یقین من طهارتك‌ثم شككت فلیس ینبغی لك ان تنقض الیقین بالشكّ ابداً. قلت: فإنی علمت انّه قد اصابه ولم ادر این هو فاغسله؟ قال: تغسل من ثوبك النّاحیة الّتی تری انّه قد اصابها حتی تكون علی یقین من طهارتك ... «1».
وهذا الحدیث كالسّابق استدلالًا وایرادً وجواباً.
ومنها: ما رواه فی الكافی فی الصحیح غن زرارة عن أحدهما (علیهما السّلام) قال: قلت له: من لم یدر فی اربع هوام فی ثنتین وقد احرز ثنتین قال یركع ركعتین- إلی ان قال- ولاینقض الیقین بالشكّ ولایدخل الشكّ فی الیقین ولا یخلط أحدهما بالاخر ولكنّه ینقض الشكّ بالیقین ویتم علی الیقین فیبنی علیه ولا یعتدّ بالشكّ فی حال من الحالات «2».
وهذا الخبر كسابقیه بعینه.
ومنها: ما روی محمّد بن علی ابن الحسین فی الخصال عن الباقر (علیه السّلام) عن امیرالمؤمنین صلوات اللَّه وسلامه علیه فی حدیث اربعمائة قال صلوات اللَّه علیه: من كان علی یقین فشكّ فلیمض علی یقینه فإنّ
______________________________
(1) تهذیب الأحكام 1/ 421
(2) الكافی 3/ 351
جامعة الأصول، ص: 188
الیقین لا یدفع بالشكّ «1».
ونقل الشیخ المتبحّر العاملی فی كلّیّاته «2» وشیخنا المجلسی (قدّس سرّه) فی البحار «3» فی باب من شكّ فی شی‌ء من الافعال هكذا: من كان علی یقین فشكّ فلیمض علی یقینه فإنّ الشكّ لا ینقض الیقین وذكر انّه رأی فی رسالة قدیمة مفردة هذا الخبر بطریقین صحیحین وفیها هكذا: من كان علی یقین فاصابه شكّ فیه فلیمض- الی آخره- «4».
ورواه فیه عن تحف العقول ایضاً مرسلًا ثمّ قال أصل هذا الخبر فی غایة الوثاقة والاعتبار علی طریقة القدماء واعتمد علیه الكلینی (قدّس سرّه) وذكر اكثر اجزائه متفرقة وكذا غیره من المحدثین- انتهی كلامه- «5».
وروی الشیخ المفید فی الارشاد «6» هذا الخبر بالنحو الّذی ذكر فی الخصال.
ومنها: ماروی عبداللَّه بن سنان فی الصّحیح قال: سأل رجل ابا عبداللَّه وانا حاضر انّی اعیر الذّمی ثوبی وانا اعلم انّه یشرب الخمر
______________________________
(1) الوسائل 1/ 175 طبع الاسلامیّة. الخصال: 619 مع اختلاف یسیر
(2) الفصول المهمّة 1/ 628
(3) البحار 77/ 359 و 10/ 98 و 116 و 117
(4) لم نجد هذه العبارة فی البحار فراجع
(5) البحار 10/ 98 و 116
(6) الارشاد 159. الطبعة الثالثة 1399
جامعة الأصول، ص: 189
ویأكل لحم الخنزیر فیردّه علیّ فاغسله قبل ان اصلّی فیه؟ فقال أبوعبداللَّه (علیه السّلام): صلّ فیه ولا تغسله من اجل ذلك فانّك اعرته ایّاه وهو طاهر ولم تستیقن أنّه نجّسه فلا بأس ان تصلیّ فیه‌حتی تستیقن انّه نجّسه «1».
ومنها: ما روی مسعدة بن صدقه فی الموثق عن أبی‌عبداللَّه (علیه السّلام) قال سمعته یقول: كلّ شی‌ء هو لك حلال حتی تعلم انّه حرام بعنیه فتدعه من قبل نفسك وذلك مثل الثوب یكون علیك قد اشتریته وهو سرقة أو المملوك عندك ولعلّه حُرٌّ باع نفسه أو خدع فبیع او قهر أو امراءة تحتك وهی اختك أو رضیعتك والاشیاء كلّها علی هذا حتی تستبین لك غیر ذلك أو تقوم به البیّنة «2».
ولا یخفی انّ هذا الخبر صریح فی العموم.
ومنها: موثّقة ابن بكیر قال قال أبوعبداللَّه (علیه السّلام): إذا استیقنت انّك قد توضّأت فایّاك ان تحدث وضوءاً ابداً حتی تستیقن انّك قد أحدثت «3».
ومنها: ما روی ضریس فی الصّحیح قال سألت ابا جعفر (علیه السّلام) عن السّمن والجبن نجده فی ارض المشركین أنأكله؟ فقال: اما ما علمت انّه
______________________________
(1) التهذیب 2/ 361 وفیه: «سأل أبی» مكان «سأل رجل»
(2) الكافی 5/ 313
(3)-
جامعة الأصول، ص: 190
قد خلطه الحرام فلا تأكل واما مالم تعلم فكله حتی تعلم انّه حرام «1».
ومنها: ما روی فی التهذیب عن الصفّار عن القاسانی قال: كتبت إلیه عن الیوم الّذی یشكّ فیه من رمضان هل یصام أم لا؟ فكتب (علیه السّلام) الیقین لا یدخل فیه الشكّ صم للرؤیة وافطر للرؤیة «2».
ومنها: موثّقة عمّار الساباطی عن أبی‌عبداللَّه (علیه السّلام) قال: كلّ شی‌ء نظیف حتی تعلم انّه قذر فإذا علمت فقد قذر ومالم تعلم فلیس علیك «3».
ومنها: ما روی عبداللَّه بن سنان فی الصحیح قال قال أبوعبداللَّه (علیه السّلام): كلّ شی‌ء یكون فیه حرام وحلال فهو لك حلال ابداً حتی تعرف الحرام بعینه فتدعه «4».
ومنها: صحیحة علی بن مهزیار قال: كتب إلیه سلیمان بن رشید یخبره انّه بال فی ظلمة اللّیل وانّه اصاب كفّه برد نقطة من البول لم یشكّ انّه اصابه ولم یره وانّه مسحه بخرقة ثمّ نسی ان یغسله وتمسّح بدهن فمسح به كفیّه ووجهه ورأسه ثمّ توضّأ وضوء الصلاة وصلّی؟ فاجابه بجواب قرأته بخطّه: امّا ما توهّمت ممّا اصاب یدك فلیس بشی‌ء الّا ما تحقّقت فإن
______________________________
(1) التهذیب 9/ 79. الوسائل 24/ 236
(2) التهذیب 4/ 159. الوسائل 7/ 184 طبع الاسلامیّة
(3) التهذیب 1/ 285
(4) الكافی 5/ 313
جامعة الأصول، ص: 191
تحقّقت ذلك كنت حقیقاً ان تعید الصّلوات الّتی كنت صلّیتهنّ بذلك الوضوء بعینه ما كان منهنّ فی وقتها وما فات وقتها فلا اعادة علیك لها، من قبل ان الرّجل إذا كان ثوبه نجساً لم یعد الصّلاة الّا ما كان فی وقت وان كان جنباً أو صلّی علی غیر وضوء فعلیه اعادة الصّلوات المكتوبات اللّواتی فاتته، لانّ الثوب خلاف الجسد فاعمل علی ذلك ان شاء اللَّه تعالی «1».
ومنها: حسنة الحلبی عن الصادق (علیه السّلام): إذا احتلم الرجل فاصاب ثوبه منیّ فلیغسل الّذی اصابه فإن ظنّ انّه اصابه ولم یستیقن ولم یر مكانه فلینضحه بالماء ... «2».
ومنها: قول امیرالمؤمنین صلوات اللَّه علیه: ما ابالی أبول اصابنی أم دم إذا لم اعلم «3».
هذه جملة من الاخبار الّتی تدلّ علی المطلوب وبعضها وان ورد فی مواضع مخصوصة الّا انّ اكثرها یدلّ علی العموم.
وغیر خفیّ انّ كثیراً من هذه الاخبار تدلّ علی حجیّة جمیع صور الإستصحاب سواء كان فی الاحكام الشرعیّة أو الوضعیّة، وسواء كان فی نفس الحكم الشرعی أو فی موضوعه أو فی متعلّقه، سوی الموضعین
______________________________
(1) الوسائل 3/ 479 نقلًا عن التهذیب 1/ 426 والاستبصار 1/ 643
(2) الوسائل 3/ 424 نقلًا عن الكافی 3/ 54 والتهذیب 1/ 252
(3)-
جامعة الأصول، ص: 192
الاخیرین لما ذكرنا انّ كثیراً من الاخبار كاخبار زرارة وموثّقة مسعدة بن صدقة وروایة الخصال صریح فی انّ مطلق الیقین لا ینقض بالشكّ، فیشمل هذه الاخبار بعمومها الوضعیّة والشرعیّة، ویشمل نفس الحكم الشرعی وموضوعاته ومتعلّقاته وكذا قولهم (علیهم السّلام): «كلّ شی‌ء نظیف حتی تعلم انّه قذر» «1» یشمل نفس الحكم الشرعی وموضوعه، یعنی یعمّ صورة الشكّ بحدوث مالم یعلم انّه قذر وصورة العلم بحدوث ما یشكّ انّه قذر وكذا یشمل الاخبار المذكورة جمیع صور الّتی ذكرنا انّ الإستصحاب یجری فیها سواء كان الحكم مغیّی بغایة أم لا، لانّ جمیع الصّور المذكورة كما بیّنا یمكن حدوث الشكّ فیها، فیدفع هذا الشكّ بالاخبار المذكورة.
فثبت بما ذكرنا حقیّة المذهب المشهور وظهر ضعف الاقوال الاخر.
امّا قول النافین مطلقاً فلما عرفت من دلالة هذه الاخبار الكثیرة علی حجیّة الإستصحاب.
وامّا قول الفاضل السبزواری فلما عرفت من دلالة الاخبار علی حجیّة الإستصحاب فی نفس الحكم الشرعی وفی موضوعه كلیهما.
وامّا قول الفاضل التونی فلما عرفت من جریان الإستصحاب فی الاحكام الشرعیّة والوضعیّة كلیهما.
وامّا قول المحقّق النّحریر الخوانساری فلما عرفت من دلالة الاخبار
______________________________
(1) الوسائل 3/ 467 نقلًا عن التهذیب 1/ 284
جامعة الأصول، ص: 193
علی حجیّة الإستصحاب سواء كان الحكم مغیّی بغایة أم لا سوی الموضعین اللّذین استثنیناهما.
وامّا الإستصحاب الّذی فی متعلّق الحكم الشرعی كاصالة بقاء المعنی اللّغوی فیجری فیه الاخبار المذكورة وان امكن ان یقال انّ وظیفة الشارع لیس بیان ذلك، الّا ان عموم الاخبار یدلّ علیه، وكذا یدلّ علیه الادلّة الاخر.
وامّا الإستصحاب الّذی لیس من نفس الحكم الشرعی ولامن موضوعه كإستصحاب بقاء الرّطوبة فی الثوب إلی ان یعلم المزیل، فیمكن ان یقال بدلالة الاخبار علیه ایضاً، بناء علی عموم عدم نقض الیقین بالشكّ، ویدلّ علیه الدّلیل الرابع ایضاً، الّا انّها لم یثبت به حكم شرعی فلا فائدة لنا فیه، وان فرض بحیث كان له مدخلیّة فی الحكم الشرعی كما إذا وجد یابساً حال وقوعه علی النّجاسة، فیمكن جریان الإستصحاب فیه ببقاء الرّطوبة حال وقوعه علی النّجاسة، الّا انّه معارض باصالة الطّهارة واصالة عدم الرّطوبة عند ملاقاة النّجاسة، فلا یكون هذا الإستصحاب حجّة لما ستعرف ان شاء اللَّه انّ حجیّة الإستصحاب فی صورة لم یحدث معارض نعم ان فرض بحیث یثبت به حكم شرعی بالعرض ولم یكن له معارض فالحقّ حجیّته لدلالة الادلّة جمیعاً حینئذٍ علیه.
جامعة الأصول، ص: 194

[كلام الشیخ الحرّ (قدّس سرّه)]

قال الشیخ الفاضل المتبحّر الحرّ العاملی فی كلیّاته بعد ایراد جملة من الاخبار المذكورة:
اقول: هذه الاحادیث لا تدلّ علی حجیّة الإستصحاب فی نفس الحكم الشرعی وانّما یدلّ علیه فی موضوعاته ومتعلقاته، كتجدد حدث بعد الطّهارة أو طهارة بعد الحدث أو طلوع الصبح أو غروب الشمس أو تجدد ملك أو نكاح أو زوالهما ونحو ذلك كما هو ظاهر من احادیث المسألتین وقد حقّقناه فی الفوائد الطوسیّة «1» ثمّ الیقین المتجدّد قد یكون بالمشاهدة وقد یكون بشهادة عدلین أو خبر ثقة أو اذانه أو غیر ذلك من الامور المحسوسة الّتی دلّت علیها الادلّة الشرعیّة. انتهی كلامه زید قدره واكرامه «2».
اقول: ضعف كلامه (قدّس سرّه) بعد ما ذكرنا ظاهر علی أولی البصائر كیف لا وكثیر من الاخبار ینادی باعلی صوته بأنّ كلّ یقین لا ینقض بالشكّ، ومن جملته ان یحصل یقین بحكم شرعی ثمّ یحصل الشكّ والجهل بأنّ الشی‌ء
______________________________
(1) الفوائد الطوسیّة 208
(2) الفصول المهمّة 1/ 628
جامعة الأصول، ص: 195
الفلانی الیقینیی الوجود هل له حكم شرعی مخالف للحكم الاوّل أم لا فحینئذٍ یدفع هذا الشكّ بالاخبار المذكورة.

[كلام الاسترآبادی (قدّس سرّه)]

وقال الفاضل المقدّس الاسترآبادی نوّر اللَّه ضریحه فی الفوائد المدنیّة: وامّا التمسّك بإستصحاب حكم شرعی فی موضع طرأت فیه حالة لم یعلم شمول الحكم الاوّل لها، مثاله من دخل فی الصّلاة بتیمّم لفقد الماء ثمّ وجد الماء فی اثنائها قبل الركوع أو بعده ومن عزم علی اقامة عشرة ثمّ رجع قبل ان یصلّی صلاة واحدة تامة أو بعدها فقد قال به الشافعیّة وبعض اهل الاستنباط كالعلامة الحلّی (قدّس سرّه) فی أحد قولیه والشیخ المفید، وانكره الحنفیّة واكثر اهل الاستنباط من اصحابنا والحقّ عندی قول الاكثر لوجوه ثمّ شرع فی بیان الادلّة علی ما ذهب إلیه وستعرفها مع جوابها فی المباحث الآتیة ان شاء اللَّه العزیز [ثمّ قال:].
ثمّ اقول: اعلم انّ للإستصحاب صورتین معتبرتین باتفاق الامّة، بل اقول: اعتبارهما من ضروریّات الدّین، أحدهما انّ الصّحابة وغیرهم كانوا یستصحبون ما جاء به نبیّنا صلّی
جامعة الأصول، ص: 196
اللَّه علیه وآله إلی ان یجی‌ء صلی اللَّه علیه وآله بنسخه وثانیهما ان یستصحب كل امر من الامور الشرعیّة مثل كون رجل مالك ارضٍ وكونه زوج امرأة وكونه عبد رجل آخر وكونه علی وضوء وكون ثوبه طاهراً ونجساً وكون اللّیل باقیاً وكون ذمّة الانسان مشغولة بصلاة أو الطواف إلی ان یقطع بوجود شی‌ء جعله الشارع سبباً لنقض تلك الامور. ثمّ ذلك الشی‌ء قد یكون شهادة العدلین وقد یكون قول الحجّام المسلم ومن فی حكمه وقد یكون قول القصّار المسلم أو من فی حكمه وقد یكون بیع ما یحتاج إلی الذّبح والغسل فی سوق المسلمین واشباه ذلك من الامور الحسیّة «1» انتهی موضع الحاجة من كلامه.
ثمّ انّه رحمه اللَّه بعد كلام استدلّ علی اثبات الصّورة الثانیة ببعض الاخبار السّابقة وبعض الاخبار الآتیة الدّالة علی ثبوت الإستصحاب فی مواضع مخصوصة.
اقول: یرد علی كلامه (قدّس سرّه) امور:
الاوّل: انّ عدم حجیّة الإستصحاب لیس قول الاكثر من اصحابنا بل الامر بالعكس كما عرفت.
الثانی: انّك قد عرفت دلالة الاخبار علی حجیّة الإستصحاب مطلقاً سوی الموضعین الاخیرین.
الثالث: انّه إذا سلّم حجیّة الصورتین المذكورتین یلزم ثبوت
______________________________
(1) الفوائد المدنیّة ص 141 و 143
جامعة الأصول، ص: 197
الإستصحاب مطلقاً ولا یبقی شقّ آخر، وذلك لانّ الإستصحاب عبارة عن ابقاء الحكم الشرعی علی ما كان إلی ان یثبت المزیل، فإذا استصحب ما جاء به النّبی (صلّی اللَّه علیه و آله) واستصحب كلّ امر من الامور الشرعیّة إلی ان یثبت المزیل، یلزم حجیّة الإستصحاب مطلقاً، لانّ جمیع المواضع المذكورة الّتی ذكرنا انّ الإستصحاب یجری فیها كلّها استصحب فیه الامر الشرعی، والامور الّتی ذكرها انّها نواقض للحكم، إن ثبت كونها جمیعاً نواقض من جانب الشّارع كما ذكره (قدّس سرّه)، فنحن نقول به ایضاً، فلا یبقی صورة للإستصحاب لا یكون حجّة.
وبهذا یظهر الاختلال فی كلامه هذا من وجهین اخرین.
الاوّل: التناقض فی اوّل كلامه وآخره.
الثانی: انّ حجیّة هاتین الصّورتین حینئذٍ لیست من ضروریّات الدّین ولا من اتفاق الامّة، فتامّل.
وبعد ذكر الاخبار المذكورة الدّالة علی حجیّة الصوّرة الثانیة.
قال رحمه اللَّه: اقول: انّه قد وقعت من جمع من متأخری اصحابنا لقلّة حذقهم فی الاحادیث اغلاط فی هذه المباحث.
ثمّ عدّ واحداً منها ونسبه إلی المحقّق الشیخ علی (قدّس سرّه) ثمّ قال:
ومن جملتها انّ كثیراً منهم زعموا انّ قولهم (علیهم السّلام): «لا ینقض یقین بشكّ وانّما ینقضه بیقین آخر» «1» جار فی نفس احكامه تعالی وقد
______________________________
(1) الوسائل 8/ 217 نقلًا عن الكافی 3/ 351
جامعة الأصول، ص: 198
افهمناك انّه مخصوص بافعال الانسان واحواله واشباههما من الوقائع المخصوصة ومن جملتها انّ بعضهم توهّم انّ قولهم (علیهم السّلام): «كلّ شی‌ء طاهر حتی تستیقن انّه قذر» «2» تعم صورة الجهل بحكم اللَّه تعالی، فإذا لم یعلم أنّ نطفة الغنم طاهرة أو نجسة نحكم بطهارتها، ومن المعلوم انّ مرادهم (علیهم السّلام) ان كلّ صنف فیه طاهر وفیه نجس كالدّم والبول واللّحم والماء واللبن والجبن ممّا لم یمیّز الشارع بین فردیه بعلامة فهو طاهر حتی تعلم انّه نجس، وكذلك كل صنف فیه حلال وحرام ممّا لم یمیّز الشارع بین فردیه بعلامة فهو لك حلال حتی تعرف الحرام بعینه فتدعه. انتهی كلامه زید احترامه «3».

[حول كلام الاسترآبادی]

اقول: یرد علی كلامه طاب ثراه ایرادات:
الاوّل: قد عرفت انّ الاخبار التی وردت فی عدم نقض الیقین بالشكّ
______________________________
(2) الوسائل 3/ 467 وفیه: كلّ شی‌ء نظیف حتی تعلم انّه قذر. الوسائل 27/ 174 وفیه: كلّ ماءٍ طاهر حتی تعلم انّه قذر
(3) الفوائد المدنیّة 148
جامعة الأصول، ص: 199
تدلّ علی حجیّة الإستصحاب مطلقاً سواء كان فی نفس الحكم الشرعی أو موضوعه أو متعلّقه، لدلالتها علی انّ مطلق الیقین لا ینقض بالشكّ، فما الباعث علی تخصیصها بافعال الانسان والوقائع؟
قال صاحب الشواهد المكیّة فی الرّد علیه: وامّا حكمه بعدم جریان النّهی منهم (علیهم السّلام) بقوله لا ینقض الیقین بالشكّ فی نفس احكامه تعالی فعجیب، لانّ اللازم منه انّ الحكم ببقاء المتطهّر علی طهارته عند تیقنها وعروض الشكّ لیس هو حكم اللَّه تعالی وانّما هو حكم العبد علی ما ادّعاه سابقاً وإذا لم یكن حكم اللَّه فكیف یجوز الدّخول به فی الصّلاة والاتفاق علی صحّته وهل حكم اللَّه شی‌ء غیر ذلك- انتهی- «1».
الثانی: انّ قولهم (علیهم السّلام): كلّ شی‌ء طاهر حتی تستیقن انّه قذر «2» تعمّ صورة الجهل بأنّ الشی‌ء الفلانی فی الشرع هل هو طاهر أو نجس وصورة الجهل بوصول الشی‌ء الّذی كان نجاسته قطعیّة، فتخصیصه باحد الفردین دون الاخر لا وجه له.
الثالث: انّ الجهل بوصول النّجاسة یستلزم الجهل بانّه فی الشرع طاهر أو نجس كما اورد علیه الفاضل التونی فی الوافیة «3» حیث قال: انّ المسلم إذا اعار ثوبه الذمّی الّذی یشرب الخمر ویأكل لحم الخنزیر ثمّ یردّه علیه
______________________________
(1) الشواهد المكیّة ص 153 و 154
(2) راجع الوسائل 3/ 467 و 27/ 174
(3) الوافیة ص 215
جامعة الأصول، ص: 200
فهو جاهل بأنّ مثل هذا الثوب الّذی هو مظنّة النّجاسة هل هو ممّا یجب التنزّه عنه فی الصّلاة وغیرها ممّا یشترط بالطّهارة أو لا؟ فهو جاهل بالحكم الشرعی مع انّه (علیه السّلام) قرّر فی الجواب قاعدة كلیّة بأنّ مالم یعلم نجاسته فهو طاهر. والفرق بین الجهل بحكم اللَّه تعالی إذا كان تابعاً للجهل بوصول النّجاسة وبینه إذا لم یكن كذلك كالجهل بنجاسة نطفة الغنم ممّا لا یمكن اقامة دلیل علیه.
الرابع: ما أورد علیه الفاضل المذكور ایضاً وهو: انّ الطهارة فی جمیع ما لم یظهر مخرج عنها قاعدة مستفادة من الشرع «1»- انتهی-.
اقول ستعلم ان شاء اللَّه العزیز حقیقة (حقیّة) هذه القاعدة.
الخامس: ما أورد علیه الفاضل المذكور ایضاً وهو انّ الفرق بین نطفة الغنم وبین البول واللّحم وغیرها تحكّم ظاهر فإنّ النطفة ایضاً منها طاهرة كنطفة غیر ذی النفس ومنها نجسة. ومن العجب حكمه بالطّهارة فیما إذا وقع الشكّ فی بول الفرس هل هو طاهر أم نجس وحكمه بنجاسة نطفة الغنم عند الشكّ. وكذا الكلام فی الحلال والحرام. انتهی كلامه رفع مقامه «2».
قال صاحب الشواهد المكیّة بعد قول الفاضل الاسترآبادی: ومن جملتها انّ بعضهم توهّم انّ قولهم (علیهم السّلام) كلّ شی‌ء طاهر- الی آخره-:
______________________________
(1) الوافیة ص 215
(2) الوافیة ص 215
جامعة الأصول، ص: 201
اقول: امّا القسم الثانی فلا نزاع فیه لانّه نصّ الحدیث عن الصّادق (علیه السّلام) وهو موافق للتوهّم الّذی نسبه إلی بعضهم. وامّا الاوّل فإذا حكمنا بالطّهارة فی الصنف الّذی فیه طاهر وفیه نجس فكیف لا نحكم بالطّهارة فی الّذی لم یرد فی شی‌ء منه نجاسة، لانّ قبول ذلك الفرد من الصنف الّذی ورد فی بعضه نجاسة، للنجاسة باعتبار المشاكلة اقرب من الّذی لم یرد فی شی‌ء من افراده نجاسة، فكانت الطهارة فیه أولی من الاخر. وكذلك القول ایضاً فی الّذی لم یرد فیه تحریم. انتهی كلامه «1».
و قال المحقّق الاسترآبادی ایضاً فی الفوائد المكیّة بعد ذكر الاخبار الواردة فی حجیّة الاستصحاب:
لا یقال هذه القاعدة یقتضی جواز العمل بإستصحاب احكام اللَّه تعالی كما ذهب إلیه المفید والعلامّة من اصحابنا والشافعیّة قاطبة، ویقتضی بطلان قول اكثر علمائنا والحنفیّة بعدم جواز العمل به.
لانّا نقول هذه شبهة عجز عن جوابها كثیر من فحول الاصولیین والفقهاء وقد اجبنا عنها فی الفوائد المدنیّة.
تارة بما ملخّصه انّ صور الإستصحاب المختلف فیها عند النظر الدقیق والتحقیق راجعة إلی انّه إذا ثبت حكم بخطاب شرعی فی موضوع فی حال من حالاته نجریه فی ذلك الموضوع عند زوال الحالة القدیمة وحدوث نقیضها فیه، ومن المعلوم انّه إذا تبدّل قید موضوع المسألة
______________________________
(1) الشواهد المكیّة 154
جامعة الأصول، ص: 202
بنقیض ذلك القید اختلف موضوع المسألتین، فالّذی سموّه استصحاباً راجح إلی اسراء حكم إلی موضوع اخر یتّحد معه بالذّات ویغایره بالقید والصّفات، ومن المعلوم عند الحكیم انّ هذا المعنی غیر معتبر شرعاً وانّ القاعدة الشریفة المذكورة غیر شاملة له.
وتارة بأنّ إستصحاب الحكم الشرعی وكذا الأصل ای الحالة الّتی إذا خلّی الشّی‌ء ونفسه كان علیها انّما یعمل بهما ما لم یظهر مخرج عنهما وقد ظهر فی محلّ النزاع.
بیان ذلك انّه تواترت الاخبار عنهم بأنّ كلّ ما یحتاج إلیه الامّة إلی یوم القیامة ورد فیه خطاب وحكم حتی ارش الخدش وكثیر ممّا ورد مخزون عند اهل الذّكر (علیهم السّلام) «1» فعلم انّه ورد فی محل النزّاع احكام لا نعلمها بعینها وتواترت الاخبار عنهم (علیهم السّلام) «2» بحصر المسائل فی ثلاث: امر بیّن رشده وبیّن غیّه ای مقطوع به لاریب فیه ومالیس هذا ولا ذاك وبوجوب التوقف فی الثالث. انتهی كلامه رفع مقامه «3».
وكلا الجوابان فی غایة الضعف.
امّا اوّلهما لانّ خلاصته: انّ الإستصحاب المختلف فیه هو ان یتغیّر وصف الموضوع، والاخبار لا تناول ذلك بل هی شاملة لما لم یتغیّر
______________________________
(1) الفصول المهمّة 1/ 480 باب ان كلّ واقعة تحتاج إلیها الامّة ...
(2) راجع الوسائل 27/ 154 باب وجوب التوقّف ...
(3) الفوائد المكیّة مخطوط
جامعة الأصول، ص: 203
وصف الموضوع.
وفیه انّ الاخبار تدلّ علی صورة تبدّل وصف الموضوع والّا فلا معنی لحدوث الشكّ، فإن بعض الاخبار یدلّ علی انّ الطّهارة إذا كانت یقینیّة ثمّ حصل الشكّ فی عروض حدث لا یعباء به، ولا شكّ انّ حالة الشكّ غیر الحالة الاولی یعنی تغیر وصف الموضوع ای حدث شی‌ء یجوز العقل رفع الطّهارة [به]. وكذا إذا عرض الخفقة أو الخفقتان كما یدلّ بعض الاخبار الاخر «1».
وامّا الثانی فلان ملخصه: انّ الإستصحاب حجّة إذا لم یظهر مخرج فیمكن ان یكون له مخرج وكان عندهم (علیهم السّلام) فیكون داخلًا فی الّذی نحن لا نعلم حكمه فیجب فیه التوقّف.
وفیه انّه من الامور الّذی رشده بیّن، لدلالة الاخبار الكثیرة علیه، مع انّك قد عرفت ضعف قاعدة التثلیث.

[الثانی من ادلّة حجیّة الاستصحاب الاستقراء]

الثانی: من وجوه الادلّة الاستقراء فإنّه یفهم من حكم الشّارع فی مواضع كثیرة بالبناء علی الإستصحاب، حجیّته ویحصل من اجتماعها ظنّ
______________________________
(1) الوسائل 1/ 254 نقلًا عن التهذیب 1/ 8 و الاستبصار 1/ 80
جامعة الأصول، ص: 204
متاخم للعلم بكونه حجّة، فإنّ من تتبّع وتفحّص كلمات الشارع یجد انّ الشارع حكم فی مواضع كثیرة بالبناء علی الإستصحاب كحكمه بعدم جواز قسمة تركة الغائب وان طال غیبته، وعدم تزویج زوجاته، وجواز اعتاق العبد الآبق فی الكفّارة، وحكمه ببقاء الملك حتی یعلم الرافع، وجواز الشّهادة علیه، وحكمه ببقاء اللّیل والنهّار حتی یعلم یقیناً انقضائهما وغیر ذلك من المواضع الكثیرة.
فهذا الاستقراء والتصفّح یدلّ علی حجیّة الإستصحاب.
فلنذكر جملة اخری من الاخبار الّتی تدلّ علی ثبوت الإستصحاب فی مواضع مخصوصة.
منها: صحیحة معاویة بن عمّار قال: سألت ابا عبداللَّه (علیه السّلام) عن الثیاب السّابریه تعملها المجوس وهم اخباث وهم یشربون الخمر ونساءهم علی تلك الحالة، البسها ولا اغسلها واصلّی فیها؟ قال: نعم. قال معاویة: فقطعت له قیمصاً وخیّطته وفتلت له ازراراً و رداء من السّابری ثمّ بعثت بها إلیه فی یوم جمعة حین ارتفع النّهار، فكانّه عرف ما ارید فخرج بها إلی الجمعة «1».
ومنها: صحیحة عبیداللَّه بن علی الحلبی قال: سألت ابا عبداللَّه (علیه السّلام) عن الصلاة فی ثوب المجوسی؟ فقال: یرش بالماء «2».
ومنها: صحیحة ابراهیم بن أبی‌محمود قال: قلت للرّضا (علیه السّلام): الخیاط
______________________________
(1) الوسائل 3/ 518 نقلًا عن التهذیب 2/ 362
(2) الوسائل 3/ 519 نقلًا عن التهذیب 2/ 362
جامعة الأصول، ص: 205
والقصّار یكون یهودیّاً أو نصرانیّاً وانت تعلم یبول ولا یتوضّأ. ما تقول فی عمله؟ قال: لا بأس «1».
ومنها: صحیحة حنان بن سدیر عن أبی‌عبداللَّه (علیه السّلام) انّه سئل وانا حاضر عنده عن جدی رضع من لبن خنزیر حتی شب وكبر واشتدّ عظمه ثمّ استفحله رجل فی غنم له فخرج له نسل، ما تقول فی نسله؟ فقال: اما ما عرفت من نسله بعینه فلا تقربه وامّا ما لا تعرفه فهو بمنزلة الجبن فكل ولا تسأل عنه «2».
ومنها: ما روی معاویة بن وهب قال: قلت لابی عبداللَّه (علیه السّلام): الرّجل یكون فی داره ثمّ یغیب عنها ثلاثین سنة ویدع فیها عیاله ثمّ یأتینا هلاكه ونحن لا ندری ما أحدث فی داره ولاندری ما حدث له من الولد إلّا انّا لا نعلم انّه أحدث فی داره شیئاً ولا حدث له ولد ولا تقسم هذه الدّار بین ورثته الّذین ترك فی الدّار حتی یشهد شاهداً عدل انّ هذه الدّار دار فلان بن فلان مات وتركها میراثا بین فلان وفلان افتشهد علی هذا؟ قال: نعم. قلت: الرجل یكون له العبد والامة فیقول: ابق غلامی وابقت امتی فیوجد فی البلد فیكلّفه القاضی البیّنة انّ هذا الغلام لفلان لم یبعه ولم یهبه، أفنشهد علی هذا ان كلّفناه ونحن لم اعلم أحدث شیئاً؟ قال فكلّما غاب عن ید
______________________________
(1) لم نقف علیه مع الفحص الكثیر
(2) الوسائل 24/ 161 نقلًا عن الكافی والفقیه و قرب الاسناد و المقنع و التهذیب
جامعة الأصول، ص: 206
المرء المسلم غلامه أو أمته أو غاب عنك لم تشهد علیه «1».
ومنها: روایة حفص بن غیاث عن أبی‌عبد اللَّه (علیه السّلام) قال: قال له رجل رأیت إذا رأیت شیئاً فی ید رجل ایجوز لی ان اشهد له؟ قال: نعم. قال: فقال الرّجل: اشهد انّه له فی یده ولا اشهد انّه له فلعلّه لغیره قال أبوعبداللَّه (علیه السّلام): افیحلّ الشراء منه؟ فقال: نعم فقال أبوعبداللَّه (علیه السّلام): لعله لغیره فمن این جاز لك ان تشتریه ویصیر ملكاً لك؟ ثمّ تقول بعد الملك هو لی وتحلف علیه ولا یجوز ان تنسبه إلی من صار ملكه من قبله الیك؟ ثمّ قال أبوعبداللَّه (علیه السّلام): لو لم یجز هذا ما قامت للمسلمین سوق «2».
ومنها: ما روی عن الصّادق (علیه السّلام) بطرق متعدّدة انّه (علیه السّلام) قال: كلّ ماء طاهر حتی تعلم انّه قذر «3».
ومنها: روایة سماعة قال سألته عن اكل الجبن وتقلید السّیف وفیه الكیمخت والغراء (الفراء)؟ فقال: لا بأس ما لم تعلم میتة «4».
ومنها: صحیحة فضیل وزرارة ومحمّد بن مسلم انّم سألوا ابا جعفر (علیه السّلام) عن شراء اللحم من الاسواق ولا یدرون ما فعل القصّابون قال:
______________________________
(1) الوسائل 27/ 336 نقلًا عن الكافی 7/ 387 والتهذیب 6/ 262
(2) الوسائل 27/ 292 نقلًا عن الكافی 7/ 387 والتهذیب والفقیه.
(3) الوسائل 27/ 174 و 1/ 133 و 134
(4) الوسائل 24/ 90 نقلًا عن الفقیه ج 1 ح 811 و التهذیب 9/ 78 ح 331
جامعة الأصول، ص: 207
كل إذا كان ذلك فی سوق المسلمین ولاتسأل عنه «4».
ومنها: روایة السّكونی عن أبی‌عبداللَّه (علیه السّلام) انّ امیرالمؤمنین (علیه السّلام) سئل عن سفرة وجدت فی الطریق مطروحة كثیر لحمها وخبزها وجبنها وبیضها وفیها سكّین. قال امیرالمؤمنین (علیه السّلام): یقوّم ما فیها ثمّ یؤكل لانّه یفسد ولیس له بقاء فإن جاءت طالبها غرموا له الثمن. قیل: یا امیرالمؤمنین لا ندری سفرة مسلم أو سفرة مجوسی فقال: هم فی سعة حتی یعلموا «5».
هذه جملة من الاخبار الواردة فی ثبوت الإستصحاب فی مواضع مخصوصة. والاخبار الاخر ایضاً كثیرة حتی انّ الفاضل الاسترآبادی مع انكاره الإستصحاب اعترف بأنّ هذا القسم من الاخبار متواترة بالمعنی «1».
ولا یخفی انّ من تظاهرها «2» وتعاضدها یحصل الظنّ التّام بالمطلوب.

[الثالث من أدلّة حجیة الاستصحاب]

الثالث من وجوه الادلّة: انّ شغل الذّمة الیقینی یحتاج إلی البراءة الیقینیّة وقد ادّعی علی ذلك الاجماع. فإذا شغل ذمّتنا بحكم من الاحكام
______________________________
(4) الوسائل 24/ 70 نقلًا عن الكافی والفقیه والتهذیب
(5) الوسائل 3/ 393 نقلًا عن الكافی و المحاسن
(1) الفوائد المدنیة ص 148
(2) تظافرها.
جامعة الأصول، ص: 208
الشرعیّة علی سبیل الجزم والیقین فیجب ان یكون فی كلّ وقت ثبت ذلك فیه كذلك إلی ان یثبت المزیل الیقینی من قبل الشریعة وهذا الدّلیل لا یشمل جمیع صور الإستصحاب بل یدلّ علی حجیّة بعض صوره وهو ما سوی الموضعین الاخیرین كما اشرنا إلیه، لانّ فیهما لم یحصل الجزم بشغل الذمّة فی الوقت المشكوك فیه.

[الرابع من الادلّة]

الرابع من وجوه الادلّة: انّ ما ثبت وتحقّق وجوده فی زمان أو حال ولم یعلم أو لم یظنّ حدوث ما یزیله یلزم ظنّ البقاء. فالفقیه إذا علم ثبوت حكم من الاحكام الشرعیّة فی وقت أو حالة ثمّ جاء وقت ثان أو حالة ثانیة ولم یظنّ حدوث ما یرفع الحكم الثابت اوّلًا، یحصل له الظنّ ببقاء الحكم المذكور فی الوقت الثانی او الحالة الثانیة، وظنّ الفقیه الجامع لشرائط الفتوی المعبّر عنه بالمجتهد حجّة.
والدلیل علی حجیّة ظنّه امور:
منها: الاجماع.
ومنها: انّه لو لم یكن ظنّ المجتهد حجّة یلزم سدّ أبواب الاحكام الالهیّة، لانّ طرق العلم مسدودة، لانّ القرآن ظنّی الدّلالة وان كان قطعی
جامعة الأصول، ص: 209
المتن فلا یفید الّا الظنّ واخبار الاحاد ایضاً لا تفید الّا الظنّ لوجوه كثیرة كظنیّة السند والدّلالة وتعارضهما والتقطیعات الّتی وقعت فیها وخروج كثیر منها مخرج التقیّة وغیر ذلك من الامور الّتی توجب ظنیّتها، والاخبار المتواترة قلیلة غایة القلّة حتی رام بعضهم انكارها مطلقاً، والاجماعات المنقولة ایضاً لا تفید الّا الظنّ، فینحصر استنباط جلّ الاحكام بالظنون الاجتهادیّة.
ومنها: انّ الظنّ طرف الرّاجح، فلو لم یعمل به بل عمل بالطرف المرجوح یلزم ترجیح المرجوح وهو باطل.
قال المحقّق الشیخ حسن فی المعالم: وانّما اكتفینا بالظنّ ولم نشترط القطع لانّه ممّا لا سبیل إلیه غالباً [إذ غایة الأمر عدم الوجدان وهو لا یدلّ علی عدم الوجود] فلو اشترط لادّی إلی بطلان العمل باكثر العمومات «1».
وهذا المحظور بعنیه یتأتی فی الاخبار لو اشترطنا العمل بصحّتها وبثبوتها- انتهی- «2».
و أورد علیه اوّلًا بانّا لا نسلّم حجیّة ظنّ المجتهد مطلقاً بل الظنّ الّذی حجّة هو الظنّ الّذی حصل من الآیات والاخبار والاجماعات لا الظنّ الحاصل من الإستصحاب.
وثانیاً: بانّا لا نسلّم حصول الظّن.
______________________________
(1) معالم الدین 389 فی بحث حجّة العام قبل الفحص عن المخصّص
(2) لم أجد هذه العبارة فی المعالم فراجع
جامعة الأصول، ص: 210
والجواب عن الأوّل انّ الادلّة الّتی تدلّ علی حجیّة ظنّ المجتهد تدلّ علی حجیّته مطلقاً، وتخصیص أحد الظّنون بالحجیّة دون الاخر تخصیص بلا مخصّص وترجیح بلا مرجّح.
مع انّ عمدة ادلّة حجیّة الخبر الواحد ایضاً هو ادلّة حجیّة ظنّ المجتهد كما عرفت من كلام صاحب المعالم. نعم بعض الظنون خارج باعتبار النصّ والاجماع كالظّنون الحاصلة من القیاس أو الاستحسان واشباههما.
والجواب عن الثانی انّ الممكنات القارّة اكثر من غیر القارّة والاغلب فی افراد الممكنات القارة ان تستمرّ وجوداتها بعد التحقق والثبوت وكیف لا والّا لزم ان یكون ارسال الهدایا والمكاتیب والمسافرة إلی البلدان سفهاً لاحتمال زوال البلدان والاشخاص مع انّ الامر لیس كذلك لانّ الظنّ لكلّ أحد حاصل بتحقّق الاشخاص والبلدان الثابتة عنده حتی یظهر خلافه.
وهذا الممكن الخاصّ اعنی الحكم الثابت من الشرع لما كان استمراره وعدم استمراره سواء فی نظر العقل، لانّ الممكن بعد وجوده جاز ان یدوم وان لا یدوم وبقاؤه یحتاج إلی علّة ولم یعلم هل هو قارّ أو غیر قارّ لكن یكون بقاؤه راجحاً الحاقاً له بالاعمّ الاغلب، فإنّ الشی‌ء إذا كان مردّداً بین كونه من هذا او ذاك وكان افراد أحدهما اغلب واكثر یحصل الظنّ بكونه من افراد الاغلب الاكثر لا سیّما إذا كان الاغلبیّة والاكثریة كثیرة جدّاً كما فیما نحن فیه مع تائیده بالامارات والعلامات
جامعة الأصول، ص: 211
الاخر كما لا یخفی علی الفطن.
و هذا الدّلیل یشمل جمیع صور الإستصحاب لانّ كلّها مشترك فی حصول الظنّ المذكور فیه ولما كان عمدة دلیل القوم لا سیّما الاوائل هذا الدّلیل حكموا بحجیّة الإستصحاب مطلقاً.
وقال العلّامة (قدّس سرّه): انّ الاستحصاب بنفسه لا یكون دلیلًا علی الحكم الباقی بنفسه لكنّه دلیل الدّلیل علی الحكم لما تقدّم فی مسألة الإستصحاب من وجود غلبة الظنّ ببقاء كل ما كان متحقّقاً علی حالة، وهو یدلّ من حیث الاجمال علی دلیل موجب لذلك الظنّ انتهی كلامه رفع قدره ومقامه «1».
وغرضه رحمه اللَّه انّ الحكم إذا كان متحقّقاً فی حالة أو وقت ثمّ جاء حالة اخری أو وقت آخر وحصل الشكّ فی ثبوت الحكم المذكور فی الحالة الثانیة أو الوقت الثانی یحصل الظنّ حینئذٍ ببقاء الحكم علی ما كان، وهذا الظّن له دلیل وموجب، یكون حجیّة هذا الظنّ باعتبار هذا الدّلیل، وهذا الدّلیل هو النّص الّذی ورد لثبوت الحكم فی الوقت الاوّل مع انضمام انّ الاغلب فی الممكن المتحقّق الاستمرار. فتأمّل.
وقال المحقّق رحمه اللَّه: إذا ثبت حكم فی وقت ثمّ جاء وقت ولم
______________________________
(1) لا توجد هذه العبارة فی باب الاستصحاب من تهذیب الاصول و مبادی‌ء الاصول للعلّامة الحلّی و كتاب النهایة النهایة له مخطوط لیس عندنا.
جامعة الأصول، ص: 212
یقم دلیل علی انتفاء ذلك الحكم، هل یحكم ببقائه علی ما كان؟ أم یفتقر الحكم به فی الوقت الثانی إلی دلالة كما یفتقر نفیه إلی الدلالة؟
حكی عن المفید انّه یحكم ببقائه مالم یقم دلالة علی نفیه وهو المختار.
وقال المرتضی: لا یحكم باحد الامرین الّا لدلالة مثال ذلك المتیمّم إذا دخل فی الصّلاة فقد اجمعوا علی المضی فیها، فإذا رای الماء فی اثناء الصلاة هل یستمر علی فعلها استصحاباً للحال الاوّل أم یستأنف الصّلاة بالوضوء؟ فمن قال بالإستصحاب قال بالاوّل ومن اطرحه قال بالثانی.
لنا وجوه:
الاوّل: ان المقتضی للحكم الاوّل ثابت فیثبت الحكم، والعارض لا یصلح رافعاً له فیجب الحكم بثبوته فی الثانی.
امّا ان مقتضی الحكم الاوّل ثابت فلانّا نتكلّم علی هذا التقدیر.
وامّا ان العارض لا یصلح رافعاً له فلانّ العارض انّما هو احتمال تجدّد ما یوجب زوال الحكم، لكن احتمال ذلك یعارضه احتمال عدمه فیكون كلّ منهما مدفوعاً بمقابله فیبقی الحكم الثابت سلیماً عن رافع- انتهی- «1».
ولی فی هذا الدّلیل تأمّل، وذلك لانّ العارض وهو احتمال عدمه مستلزم لثبوت الحكم فیه، فإذا تعارضا وتساقطا لا یكون الحكم فی الوقت
______________________________
(1) معارج الاصول ص 206
جامعة الأصول، ص: 213
الثانی لا ثابتاً جزماً ولا زائلًا كذلك، ومقتضی ذلك لیس الّا التوقّف فما معنی بقاء الحكم سلیماً فی الوقت الثانی؟
نعم یبقی الحكم فی الوقت الاوّل سلیماً وهو غیر محل النّزاع.
فالاظهر فی الاستدلال علی ماذكرنا ان یقال: ان الاحتمالین وان كانا متحقّقین الّا انّ احتمال العدم راجح فی نظر الفقیه بناء علی انّ الاغلب فی الممكن الاستمرار. فتأمّل.
واستدلّ بعضهم علی حجیّته بأن الثابت أولًا قابل للثبوت ثانیاً والّا لانقلب من الامكان الذّاتی إلی الاستحالة، فیجب ان یكون فی الزمان الثانی جائز الثبوت كما كان أولًا، فلا ینعدم الّا لمؤثّر لاستحالة خروج الممكن من أحد طرفیه إلی الاخر لا لمؤثّر، فإذا كان التقدیر تقدیر عدم العلم بالمؤثّر یكون بقاؤه ارجح من عدمه فی اعتقاد المجتهد، والعمل بالرّاجح واجب- انتهی-.
والظاهر انّ غرضه به إذا كان التقدیر تقدیر عدم العلم بالمؤثّر یكون البقاء ارجح بناء علی انّ الاغلب فی الممكن القارّ البقاء والاستمرار.
وبهذه العنایة یندفع عنه ما اورد علیه بعض الافاضل حیث قال:
هذا ممنوع إذ كما انّ التقدیر عدم العلم بالمؤثّر فی العدم فی الزمان الثانی كذا لا یعلم المؤثّر فی الوجود فی الزّمان الثانی إذ الممكن نسبته بذاته إلی الطرفین فی كلّ ان علی السّواء والعلم بالمؤثّر فی الوجود فی الزّمان الاوّل لایكفی بالنّسبة إلی الزمان الثانی الّا ان یقال بعدم احتیاج
جامعة الأصول، ص: 214
الممكن فی البقاء إلی مائز (مؤثر) جدید وهو ممنوع ولا سیّما كلیّته ولا یتنفع ههنا الّا الكلیّة. فتأمّل- انتهی-.
وذلك لانّه وان لم یعلم المؤثّر فی الوجود كما لا یعلم المؤثّر فی العدم الّا انّ الاغلب فی الممكن القارّ لمّا كان البقاء والاستمرار یكون بقاؤه عند المجتهد ارجح.
ولا یبعد ان یقال: امره بالتأمّل اشارة إلی ما ذكرنا.
ثمّ اعلم انّ فی كتب القوم وجوها آخر من الادلّة علی حجیّة الإستصحاب الّا انّها لما كانت عند الانصاف غیر سدیدة طوینا عنها كشحاً. واللَّه هو الموفق.
وإذ ثبت بحمد اللَّه حجیّة الإستصحاب مطلقاً فلنذكر الآن ادلّة المخالفین للمشهور ونشیر إلی ما یرد علیها.

البحث الرابع: فی ادلّة المخالفین للمشهور.

[أدلة النافین]

امّا ادلّة النافین مطلقاً فاحتجّ السیّد المرتضی رضی اللَّه عنه علی ما نقله صاحب المعالم بأن فی إستصحاب الحال جمعاً بین حالین فی حكم من غیر دلالة لانّ الحالین مختلفان من حیث كان غیر واجد للماء فی
جامعة الأصول، ص: 215
احدیهما واجداً له فی الاخری فكیف سوّی بین الحالین من غیر دلالة؟
قال: وإذا كنّا اثبتنا الحكم فی الحالة الاولی بدلیل فالواجب ان ننظر فإذا كان الدّلیل یتناول الحالین سوّینا بینهما فیه ولیس ههنا إستصحاب، وان كان متناول الدّلیل انّما هو الحال الاولی فقط والثانیة عاریة من دلیل، فلا یجوز اثبات مثل الحكم لها من غیر دلیل، وجرت هذه الحال مع الخلوّ من الدّلیل مجری الاولی لو خلت من دلالة. فإذا لم یجز اثبات الحكم للاولی الّا بدلیل فكذلك الثانیة- انتهی- «1».
واجیب عنه بأنّ جمیع صور الإستصحاب مشترك فی حصول الشكّ فی الحالة الثانیة بأن الدّلیل هل یتناولها أم لا؟ فالدّلیل ان تناول الحالة الثانیة جزماً ومع ذلك لم یحدث شكّ أو لم یتناولها قطعاً فلا شكّ فی عدم الإستصحاب هنا، ولكن هنا شقٌ آخر وهو انّ یحدث الشكّ فی تناول الدّلیل للحالة الثانیة وعدمه وحینئذٍ یتمسّك ببقاء الحكم فی الحالة الثانیة بالاخبار المذكورة وسائر الادلّة الّتی ذكرناها.
ثمّ انّ السیّد قدّس اللَّه نفسه الزكیّة أورد سؤالًا حاصله علی ما ذكره صاحب المعالم ایضاً: انّ ثبوت الحكم فی الحالة الاولی یقتضی استمراره الّا لمانع إذ لو لم یجب ذلك لم یعلم استمرار الاحكام فی موضع وحدوث الحوادث لا یمنع من ذلك كما لا یمنع حركة الفلك وما جری مجراه من الحوادث، فیجب إستصحاب الحال مالم یمنع مانع.
______________________________
(1) معالم الدین 521
جامعة الأصول، ص: 216
واجاب بانّه لا بدّ من اعتبار الدّلیل الدّال علی ثبوت الحكم فی الحالة الاولی وكیفیّة اثباته، وهل یثبت ذلك فی حالة واحدة أو علی سبیل الاستمرار، وهل تعلّق بشرط مراعی أو لم یتعلّق.
قال: وقد علمنا انّ الحكم الثابت فی الحالة الاولی انّما یثبت بشرط فقد الماء والماء فی الحالة الثانیة موجود، واتفقت الامّة بثبوته فی الاولی واختلفت فی الثانیة والحالتان مختلفتان، وقد ثبت فی العقول انّ من شاهد زیداً فی الدّار ثمّ غاب عنه لا یحسن ان یعتقد استمرار كونه فی الدّار الّا بدلیل متجدّد. وصار كونه فی الدّار فی الثانی وقد زالت الرؤیة بمنزلة كون عمرو فیها مع فقد الرّؤیة.
وامّا القضاء بأنّ حركة الفلك وماجری مجراها لا یمنع من استمرار الاحكام فذلك معلوم بالادلّة، وعلی من ادّعی انّ رؤیة الماء لم یغیّر الحكم الدّلالة.
ثمّ قال: وبمثل ذلك نجیب من قال: فیجب ان لانقطع بخبر من اخبرنا عن مكّة وما جری مجراها من البلدان علی استمرار وجودها وذلك انّه لا بدّ للقطع علی الاستمرار من دلیل امّا عادة أو ما یقوم مقامها ولو كان البلد الّذی اخبرنا عنه علی ساحل البحر لجوّزنا زواله لغلبة البحر الّا ان یمنع من ذلك خبر متواتر، فالدّلیل علی ذلك كلّه لا بدّ منه- انتهی عباراته الشریفة- «1».
______________________________
(1) معالم الدین 521- 522
جامعة الأصول، ص: 217
وملخّصها كما تقدّم فی كلامه الاوّل: انّ ثبوت الحكم فی الحالة الثانیة یحتاج إلی دلیل ولم یعلم تناول الدّلیل الحالة الثانیة، بل المحقّق تناوله الحالة الاولی فقط فلا یمكن اثبات الحكم فی الحالة الثانیة بهذا الدّلیل.
وجوابه ظاهر، فإنّ الاخبار الكثیرة كما عرفتها دالّة علی انّ الیقین الاوّل لا یترك باعتبار الشكّ فی الحالة الثانیة، وبعد دلالة الاخبار لا یمكن نفی الحكم بهذا الكلام لاسیّما مع تعاضدها بادلّة اخر كما عرفتها.
و استدلّ بعضهم علی عدم حجیّة الإستصحاب بأنّ الوجوب والحلّ والحرمة والطهارة والنّجاسة من الاحكام الشرعیّة والاحكام الشرعیّة یجب ان یثبت بالادلّة المنصوبة من قبل الشارع، والادلّة المنصوبة من قبل الشارع منحصرة فی الكتاب والسنّة والاجماع، والإستصحاب لیس واحداً منها.
ولا یخفی ما فیه لانّ حجیّة الإستصحاب یظهر من الاخبار المستفیضة الكثیرة الدّالة علی انّ ما تحقّق فی زمان یكون باقیاً فی الزمان الثانی. فالنصّ الدّال علی تحقق الحكم فی الزمان الاوّل بضمیمة الاخبار المذكورة یدلّ علی بقاء الحكم فی الزمان الثانی. هذا مع معاضدتها بوجوه اخر من الادلّة كما عرفتها.
جامعة الأصول، ص: 218

[ما ذهب إلیه صاحب الذخیرة]

أمّا ما ذهب إلیه الفاضل النّحریر صاحب الذخیرة وبعض اخر وهو إنّ الإستصحاب الّذی ثبت حجیّته هو الإستصحاب فی موضوع الحكم الشرعی دون نفسه، فحجّته انّ الاعتماد فی حجیّة الإستصحاب انّما هو علی الاخبار، لقصور الادلّة الاخر عنده، والاخبار كلّها تدلّ علی حجیّة الإستصحاب فی موضوع الحكم الشرعی دون نفسه، لانّ مضمونها إذا حصل الشكّ بالحدث الیقینی بعد الیقین بالطّهارة لاینقض هذا الیقین بالطّهارة، ولیس فیها ما یدلّ علی انّه إذا حصل الشكّ فی كون الشی‌ء الفلانی الیقینی الوجود مزیلًا للحكم یجب ان لا یعبأ بهذا الشكّ.
وفیه كما عرفت انّ كثیراً من الاخبار یدلّ علی انّ مطلق الیقین لا یترك بمطلق الشك، سواء كان الشكّ فی نفس الحكم أو موضوعه، وبعضها یدلّ علی طهارة كلّ شی‌ء ما لم یعلم انّه قذر، وهذا ایضاً یعمّ الصّورتین، مع انّ الشكّ فی الموضوع مستلزم للشكّ فی نفس الحكم الشرعی، وقد تقدّم كل ذلك مفصّلًا فی ردّ كلام الفاضلین المتبحرّین الفاضل الاسترآبادی والفاضل الشیخ الحرّ العاملی رحمهما اللَّه فلا نعیده ثانیاً فإن شئت فارجع إلیه.
جامعة الأصول، ص: 219

[ما ذهب إلیه المحقّق الخوانساری]

اشارة

أما ما ذهب إلیه المحقّق الاستاذ الخوانساری طاب ثراه فلنذكر عباراته الشریفة حتی یظهر دلیله.
قال طاب ثراه فی شرحه للدّروس: اعلم انّ القوم ذكروا انّ الإستصحاب اثبات حكم شرعی فی زمان لوجوده فی زمان سابق علیه وهو ینقسم إلی قسمین باعتبار انقسام الحكم المأخوذ فیه إلی شرعی وغیره.
فالاوّل مثل ما إذا ثبت حكم الشرع بنجاسة ثوب أو بدن مثلًا فی زمان، فیقولون: انّ بعد ذلك الزمان ایضاً یجب الحكم بالنّجاسة إذا لم یحصل الیقین بما یرفعها.
والثانی: مثل ما إذا ثبت رطوبة ثوب فی زمان فبعد ذلك الزمان ایضاً یحكم برطوبته ما لم یعلم الجفاف.
وذهب بعضهم إلی حجیّته بقسمیه وبعضهم إلی حجیّة القسم الاول فقط.
واستدلّ كلّ من الفریقین بدلائل مذكورة فی محلّها، كلّها قاصرة عن افادة المرام كما یظهر عند التأمّل فیها ولم نتعرّض لذكرها ههنا بل نشیر إلی ما هو الظاهر عندنا.
جامعة الأصول، ص: 220
فنقول: الظاهر انّ الإستصحاب بهذا المعنی لا حجیّة فیه اصلًا بكلا قسمیه إذ لا دلیل علیه تامّاً لا عقلًا ولا نقلًا. نعم الظّاهر حجیّة الإستصحاب بمعنی آخر وهو ان یكون دلیل شرعی علی انّ الحكم الفلانی بعد تحققه ثابت إلی حدوث حال كذا ووقت كذا مثلًا معیّن فی الواقع بلا اشتراطه بشی‌ء اصلًا، فحینئذٍ إذا حصل ذلك الحكم یحكم «1» باستمراره إلی ان نعلم وجود ما جعل مزیلًا له ولا یحكم بنفیه بمجرّد الشّك فی وجوده والدّلیل علی حجیّته امران:
الاوّل: ان ذلك الحكم امّا وضعیّ أو أقتضائی أو تخییری ولما كان الاوّل ایضاً عند التحقیق یرجع الیهما فینحصر فی الاخیرین وعلی التقدیرین یثبت ما ذكرنا.
امّا علی الاوّل: فلانّه إذا كان امر أو نهی بفعل إلی غایة مثلًا فعند الشكّ بحدوث الغایة لو لم یمتثل التكلیف المذكور لم یحصل الظنّ بالامتثال والخروج عن العهدة وما لم یحصل الظنّ لم یحصل الامتثال فلا بدّ من بقاء ذلك التكلیف حال الشكّ ایضاً وهو المطلوب.
و امّا علی الثانی فالامر ظاهر «2» كما لا یخفی.
والثانی: ما ورد فی الروایات من انّ الیقین لا ینقض بالشكّ.
فإن قلت: هذا كما یدلّ علی حجیّة المعنی الّذی ذكرته كذلك یدلّ
______________________________
(1) فی المصدر: فیلزم الحكم باستمراره
(2) فی المصدر: اظهر
جامعة الأصول، ص: 221
علی حجیّة ما ذكره القوم، لانّه إذا حصل الیقین فی زمان فینبغی ان لا ینقض فی زمان آخر بالشكّ نظراً إلی الرّوایة، وهو بعینه ما ذكروه.
قلت: الظاهر انّ المراد من عدم نقض الیقین بالشكّ انّه عند التعارض لا ینقض به، والمراد بالتعارض ان یكون شی‌ء یوجب الیقین لولا الشكّ، وفیما ذكروه لیس كذلك، لانّ الیقین بحكم فی زمان لیس ما یوجب حصوله فی زمان آخر لولا عروض شكّ وهو ظاهر- انتهی كلامه رفع مقامه- «1».

حول كلام المحقّق الخوانساری‌

اقول: یرد علی كلامه هذا امران:
الاوّل: انّ الدلیل الاوّل یجری فی بعض صور اخر من الصّور الّتی ذكرنا انّ الإستصحاب یجری فیها.
منها: ان یعلم یقیناً انّ ذمّتنا مشغولة بشی‌ء أو اشیاء ثمّ حصل لنا شكّ ببراءة ذمّتنا.
ومنها: ان یكون النّص الدّال علی الحكم شاملًا لجمیع الازمنة لتقییده بالتأبید ومثله وحصل الشكّ فی زمان خاصّ باعتبار معارض.
ومنها: ان یكون النّصّ الدّال علی الحكم شاملًا لجمیع الازمنة
______________________________
(1) شرح الدروس ص 76
جامعة الأصول، ص: 222
بعمومه وحصل الشّكّ فی ثبوت الحكم فی زمان خاصّ لمعارض ایضاً.
ومنها: انّ یكون شاملًا باطلاقه وحصل الشكّ فی زمان معیّن لاجل ذلك.
فیمكن ان یقال: ثبوت الحكم فی هذه الصّور كان فی جمیع الازمنة لاجل النصّ یقینیّاً، فشغل الذمّة فی جمیع الازمنة باعتبار النّص یكون یقینیّاً فإذا وقع الشكّ فی جزء من الزّمان باعتبار معارض، لا یترك الحكم المذكور الیقینی، لان شغل الذمّة الیقینی یحتاج إلی البراءة الیقینیّة وان صار شغل الذمّة بعد عروض الشكّ مشكوكاً. وقد ادّعی جمع الاجماع علی ذلك. فتخصیص هذا الدّلیل بالصّور الّتی ذكره (قدّس سرّه) مع جریانه فیما ذكرناه لیس فی موضعه.
نعم یمكن ان یقال: انّ المعارض إذا كان اضعف من النّص العامّ أو المطلق یطرح هذا المعارض ویؤخذ بالحكم الّذی یدلّ علیه النصّ فالدّال علی الحكم فی جمیع الازمنة هو النّص لا الإستصحاب. الّا انّ ذلك لا ینافی ثبوت الإستصحاب هنا وحجیّته، فإنّه فی هذه الصّورة كما یمكن اثبات الحكم بالنصّ یمكن بالإستصحاب ایضاً وقد ذكرنا ذلك قبل ذلك ببیان أوضح.
ثمّ لا یخفی انّ هذا الدّلیل لا یجری فی بعض الصّور الّتی ذكرناها كما اشرنا إلیه بعد ذكر هذا الدّلیل. وهذا البعض هو الّذی ثبت الحكم فی زمان ولم یعلم انّ هذا الحكم مستمرّ أو ینقضی بانقضاء الزّمان، أو علم
جامعة الأصول، ص: 223
استمراره فی الجملة ولكن لم یعلم انّه هل یستمرّ ابداً أو فی بعض الازمنة.
وعدم جریانه فی هاتین الصّورتین لاجل انّه إذا حصل الشكّ فی زمان بعد انقضاء الزّمان الاوّل فی الصورة الاولی أو بعد انقضاء قطعة مستمرة من الزمان فی الثانیة بانّه هل الحكم ثابت أم لا؟ لا یمكن ان یقال الحكم ثابت فی هذا الزّمان المشكوك فیه، لانّ الیقین بشغل الذمّة یحتاج إلی البراءة الیقینیّة. لانّا نقول لیس شغل الذّمة فی هذا الزمان یقینیّاً، لانّه لم یرد دلیل یشمل بنصّه أو عمومه أو اطلاقه هذا الزّمان حتّی یقال ثبوت الحكم باعتبار الدّلیل كان فی هذا الزمان یقینیّاً فإذا وقع الشكّ لا یعبأ به لأجل الدلیل المذكور بل شمول الحكم فی اوّل الامر بهذا الجزء من الزّمان كان مشكوكاً.
هذا كلّه بناء علی ان یكون بناء كلامه (قدّس سرّه) علی انّ الیقین بشغل الذّمة یحتاج إلی الیقین أو الظّن الشرعی بالبراءة؟.
وان بنی‌الامر علی ما یستفاد من ظاهر كلامه (قدّس سرّه) من انّه یجب حصول الیقین أو الظنّ بالامتثال مطلقاً سواء علم شغل الذّمة فی الزّمان الّذی وقع فیه الشكّ من دلیل أو لم یعلم ذلك جزماً بل كان ذلك بمجرّد الشكّ.
فیرد علیه انّ هذا الدّلیل یجری فی الصّورتین الاخیرتین ایضاً، لانّ الزّمان الّذی وقع الشكّ فیه مالم یبن الامر علی ثبوت الحكم فیه ایضاً لم یحصل القطع أو الظّن بالبراءة فلا یحصل الامتثال. فتدبّر.
الثانی: انّ الدّلیل الثانی اعنی الاخبار ایضاً یجری فی الصّورة
جامعة الأصول، ص: 224
المذكورة، فالتخصیص لیس له مخصّص. ووجه الجریان ظاهر نعم لا یجری فی الصورتین اللّتین ذكرنا انّ الدلیل الاوّل ایضاً لا یجری فیهما ووجه عدم الجریان فیهما كما ذكرنا فی الوجه الاوّل من دون تفاوت.
فالدّلیل الّذی ذكره لعدم جریان الاخبار فیما ذكره القوم اعنی قوله: «قلت الظاهر- الی آخره-» مسلمّ فی هاتین الصّورتین وامّا فی الصوّر الاخر فلا كما عرفت.
ثمّ انّ بعض افاضل المتأخرین طاب ثراهم «1» تصدّی لاثبات جریان الدّلیلین المذكورین اعنی الاخبار واحتیاج شغل الذمّة الیقینی إلی البراءة الیقینیّة فی هاتین الصورتین ایضاً فإنّه بعد ذكر هاتین الصّورتین والصّورة الّتی اذعن بحجیّتها الاستاذ العلّامة الخوانساری قال:
وجمیع هذه الصّور مشتركة فی حصول رجحان البقاء بعد ملاحظة الوجود المتقدّم المتیقّن، فیمكن لمن عوّل علی مثل هذا الظّن اثبات الحكم بتوسّطه فی الزمان الثانی وان جاز اثباته لغیره من دلیل عقلی أو نقلی كما سیظهر ان شاء اللَّه تعالی فی المقدّمة الثالثة. وكذا كلّها مشتركة فی انّ الشكّ لو فرض عدم عروضه فی الزّمان الّذی عرض فیه أو عند الحال الّتی فرض عروضه عندها لكنّا قاطعین بالبقاء، لانّ عدم العروض
______________________________
(1) هو السیّد صدر الدین القمی فی شرح الوافیة. راجع الحاشیة علی الفرائد للشیخ الكبیر فسم الاستصحاب ص 88 و القوانین المحكمة للقمی 293
جامعة الأصول، ص: 225
انّما یكون عند القطع بأنّ جزءاً من اجزاء علّة الوجود لم یرتفع ومع عدم ارتفاعه یحصل الیقین بوجود المعلول لما مرّ من انّ بقاء المعلول انّما هو ببقاء علّته التّامّة وزواله انّما هو بعدمها- انتهی-.
وقال فی موضع آخر مورداً علی كلام الاستاذ العلّامة اعنی الدّلیل الذی ذكره لعدم الجریان:
اقول: الیقین بوجود الشی‌ء فی زمان یدلّ علی وجود جمیع ما یتوقّف علیه ذالك الشی‌ء، فلولا عروض الشّكّ فی ارتفاع جزء من اجزاء ما یتوقّف علیها لكنّا قاطعین بوجوده بوجود علّتة التامّة- انتهی كلامه رفع مقامه-.
اقول: لا یخفی علی المتأمّل الاریب انّ معنی قولنا: «الیقین لا ینقض بالشكّ» وقولنا: «شغل الذّمة الیقینی لا یدفع بالبراءة المشكوك فیها» انّه إذا ثبت وتحقّق اوّلًا من دلیل عقلی أو نقلی انّ هناك یقیناً ثمّ ورد علیه الشّك لا یترك هذا الیقین بهذا الشكّ. ففی كلّ وقت من الاوقات أو حالة من الحالات حصل الجزم بثبوت حكم فیه ثمّ حصل الشكّ بثبوته فیه ایضاً باعتبار ما یصدق انّ هذا الیقین الثابت أولًّا لا ینقض بالشكّ وامّا إذا تحقّق الیقین فی زمان وحصل الشكّ فی زمان آخر لم یحصل الیقین فیه أولًا، كیف یصدق فیه عدم نقض الیقین بالشكّ فیه؟ واحتیاج شغل الذمّة الیقینی فیه إلی البراءة الیقینیّة؟ لانّه لیس فیه یقین حتی لا ینقض بالشكّ، فإن قولنا: الیقین لا ینقض بالشكّ قضیّته فی قوّة قولنا: الیقین باق
جامعة الأصول، ص: 226
مع الشّكّ، فهذه القضیّة فی الحقیقة موجبة والقضیّة الموجبة تقتضی وجود الموضوع لانّ ثبوت الشی‌ء للشی‌ء فرع ثبوت المثبت له سیمّا إذا كان المجهول هو الموجود والباقی وامثالهما فهذه القضیّة تصدق فی كلّ موضع وحالة وزمان ثبت وتحقّق فیه الیقین اوّلًا ثمّ ورد علیه الشكّ. والظّاهر انّ غرض الاستاذ العلّامة من حدیث التعارض الّذی ذكره هو ما ذكرناه.
و إذا عرفت فهذا فنقول: قوله طاب ثراه: «فلو لا عروض الشكّ فی ارتفاع جزء من اجزاء ما یتوقّف علیها لكنّا قاطعین بوجوده بوجود علّته التامّة یدلّ علی انّه إذا ارتفع هذا الشّك الّذی وقع فی الزّمان الّذی حصل الشّك فی ثبوت الحكم فیه یحصل الیقین بثبوت الحكم فیه. فنقول: ارتفاع الشكّ فیه موقوف علی دلالة دلیل علی ثبوت الحكم فیه فما لم یصل دلیل علیحدة من الشّارع یدلّ علی ثبوت الحكم فیه لا یرتفع هذا الشكّ وبعد دلالة دلیل علیحدة علی ذلك لامعنی لجریان الإستصحاب فیه. ومع قطع النّظر عن دلیل علیحدة لا یمكن رفع هذا الشكّ بالتمسّك بعدم نقض الیقین بالشكّ واحتیاج شغل الذمّة الیقینی إلی البراءة الیقینیّة لما عرفت من اقتضاء هذین الدّلیلین ثبوت الیقین وتحقّقه فی الزمان الّذی وقع فیه الشكّ والمفروض عدم تحقّقه فلا یمكن اثبات الحكم فیه بالإستصحاب. كیف ولو صحّ هذا الكلام لما بقی لنا شكّ فی امر من الامور لانّ كل موضع حصل لنا شكّ فی ثبوت حكم أو نفیه، نقول خلافه یقینیّ سواء كان له
جامعة الأصول، ص: 227
حالة سابقة أم لا، لانّه یصدق علیه انّه لو لم یعرض هذا الشكّ لكان خلافه یقینیّاً فثبت خلافه بهذین الدّلیلین. مثلًا اذا شككنا فی صحّة البیع الفضولی نقول: لو لم یعرض شكّ الصّحة لكان عدم الصّحة یقینیّاً فیجری فیه اخبار عدم نقض الیقین بالشّك مع انّه لیس له حالة سابقة. وكذا الحكم اذا عكس الامر یعنی شككنا عدم صحّة البیع الفضولی یصیر الحكم منعكساً ولاشكّ فی بطلانه فتأمّل.
ثمّ انّ الفاضل المذكور فی موضع آخر أورد ایضاً علی الدّلیل الاوّل الّذی ذكره الاستاذ العلّامة لاثبات الإستصحاب فی الصّورة الّتی ثبت حجیّته فیها عنده وقال: قوله (قدّس سرّه): «فعند الشّكّ بحدوث تلك الغایة لو لم یتمثل التكلیف- الی آخره-» والایراد علیه أوّلًا بانّ هذا الدّلیل جار فیما اذا ثبت تحقّق حكم فی الواقع مع الشّك فی تحقّقه بعد انقضاء زمان لابدّ للتحقّق منه وهذا هو الّذی اجری القوم فیه الإستصحاب.
بیانه انّا كما نجزم فی الصّورة الّتی فرضها (قدّس سرّه) بتحقق الحكم فی قطعة من الزمان ونشكّ ایضاً حین القطع فی تحققه فی زمان یكون حدوث الغایة فیه وعدم حدوثها متساویین عندنا، كذلك نجزم بتحقق الحكم فی زمان لا یمكن تحقّقه الّا فیه ونشكّ ایضاً حین القطع فی تحقّقها فی زمان متّصل بذلك الزّمان لاحتمال وجود رافع جزء من اجزاء علّة الوجود وعدمه. وكما انّ فی صورة الشكَ فی الصّورة الاولی یكون الدلیل محتملًا
جامعة الأصول، ص: 228
لان یراد منه وجود الحكم فی الزمان الّذی یشكّ فی الحكم فیه وان یراد عدم وجوده فیه، كذلك حال الدّلیل فی الصّورة الّتی فرضناها. وعلی هذا نقول: لو لم یمتثل التكلیف المذكور لم یحصل الظّن بالامتثال والخروج عن العهدة ولو امتثل یحصل القطع به لانّ فی زمان الشكّ ان كان الواقع وجود الحكم فقد فعلنا ما كان علینا من التكلیف وان كان الواقع عدمه فقد خرجنا بما فعلنا فی زمان القطع عن العهدة- انتهی كلامه زید احترامه.
اقول: قد علمت انّ هذا الدّلیل فی كلام الاستاذ المحقّق العلّامة طاب ثراه محمول علی انّ شغل الذّمة الیقینی یحتاج إلی البراءة الیقینیّة، فحینئذٍ یظهر الفرق بین الصوّرتین، فإنّ الصّورة الّتی ثبت حجیّتها عند الاستاذ المحقق یجری فیها هذا الدلیل ولا یجری فی الصورة الّتی اجری القوم فیها الإستصحاب كما ذكره هذا الفاضل. وذلك لانّ الصّورة الاولی علی ما عرفتها اعنی ان یثبت من دلیل انّ الحكم الفلانی ثابت إلی وقت كذا أو حالة كذا فثبوت الحكم إلی الوقت المذكور أو الحالة المذكورة یقینی فشغل الذمّة فی مجموع هذا الوقت بهذا الحكم القطعی فاذا وقع الشك فی دخول الوقت المذكور أو الحالة المذكورة یمكن دفع هذا الشك بانّ شغل الذمّة الیقینی یحتاج إلی البراءة الیقینیّة بخلاف الصّورة الثانیة فإنّ المحقّق من الدلیل ثبوت الحكم فی زمان خاصّ و امّا ثبوته فی الزّمان الّذی وقع الشك فی ثبوت الحكم فیه فلا یدلّ علیه الدّلیل، فلیس شغل الذّمة به فیه یقینیّاً فلا یجری فیها هذا الدّلیل، فتأمّل.
جامعة الأصول، ص: 229

[ایضاً كلام المحقّق الخوانساری]

اشارة

أیضاً كلام المحقق الخونساری ثمّ انّ الاستاذ المحقّق الخوانساری طاب ثراه بعد ذكر كلام قال: والحاصل انّه اذا ورد نصّ أو اجماع علی وجوب شی‌ء مثلًا معلوم عندنا أو ثبوت حكم إلی غایة معلومة عندنا فلابدّ من الحكم بلزوم تحصیل الیقین أو الظنّ بوجود ذلك الشی‌ء المعلوم حتی یتحقّق الامتثال ولا یكفی الشكّ فی وجوده وكذا یلزم الحكم ببقاء ذلك الحكم إلی ان یحصل العلم او الظنّ لوجود تلك الغایة المعلومة ولایكفی الشك فی وجودها فی ارتفاع ذلك الحكم وكذلك إذا ورد نصّ أو اجماع علی وجوب شی‌ء معیّن فی الواقع مردّد فی نظرنا بین امور ونعلم انّ ذلك التكلیف غیر مشروط بشی‌ء من العلم بذلك الشی‌ء مثلًا أو علی ثبوت حكم إلی غایة معیّنة فی الواقع مردّدة عندنا بین اشیاء ونعلم ایضاً عدم اشتراطه بالعلم مثلًا یجب الحكم بوجوب ذلك الاشیاء المردّدة فیها فی نظرنا وبقاء ذلك الحكم إلی حصول تلك الاشیاء ایضاً ولا یكفی الاتیان بشی‌ء واحد منها فی سقوط التكلیف وكذا حصول شی‌ء واحد فی ارتفاع الحكم وسواء فی ذلك كون ذلك الواجب شیئاً معیّناً فی الواقع مجهولة عندنا أو اشیاء كذلك أو غایة معیّنة فی الواقع مجهولة عندنا أو غایات كذلك وسواء
جامعة الأصول، ص: 230
ایضاً تحقّق قدر مشترك بین تلك الاشیاء والغایات أو تباینها الكلیّة وامّا اذا لم یكن كذلك بل ورد نصّ مثلًا علی انّ الواجب الشی‌ء الفلانی ونصّ آخر علی انّ ذلك الواجب شی‌ء آخر أو ذهب بعض الامّة إلی وجوب شی‌ء والاخرون إلی وجوب شی‌ء آخر دونه وظهر بالنّص أو الاجماع فی الصّورتین ان ترك هذین الشیئین معاً سبب لاستحقاق العقاب فحینئذٍ لم یظهر وجوب الاتیان بهما معاً حتی یتحقّق الامتثال، بل الظاهر الاكتفاء بواحد منهما سواء اشتركا فی امر أو تباینا بالكلیّة. وكذلك الحكم فی ثبوت الحكم الی الغایة- انتهی كلامه رفع مقامه «1».
وكلامه جیّد.
فان قلت: فی كلامه تناقضاً وتبایناً لانّه طاب ثراه فی كلامه المتقدّم بیّن ان ما یجری فیه الإستصحاب صورة واحدة، وهنا ذكر اربعة مواضع یجری فیها الإستصحاب.
قلت: هذا قرینة علی انّ كلامه الاوّل محمول علی التمثیل.
وبذلك یمكن ان یقول أحد: انّه یمكن ان یدفع بذلك عنه ما أوردنا علیه من جریان الإستصحاب فی الصّور الاخر مع عدم تعرّضه لها كما ذكرنا مفصّلًا بان یقال: لم یذكرها لانّ ما ذكره فی اوّل كلامه وآخره محمول علی التمثیل فیمكن ان یستنبط منهما الصّور الّتی لم یتعرّض لها.
وفیه ما فیه لانّ كلامه الاخر لما دلّ علی انّ ما یجری فیه الإستصحاب
______________________________
(1) شرح الدروس مشارق الشموس ص 77
جامعة الأصول، ص: 231
اربع صور حملنا كلامه الّاول علی انّه علی سبیل التمثیل وامّا الصور الّتی لم یتعرض لها مع كونه (قدّس سرّه) بصدد ضبط الاقسام وحصر الشقوق فلا یمكن استنباطها من كلامه، فتأمّل.
ثمّ اعلم انّ للاستاذ المحقّق طاب ثراه حاشیة عند شرح كلام الشهید (قدّس سرّه) «ویحرم استعمال الماء النّجس والمشتبه به» «1» ولما كان فیها فوائد كثیرة فلنذكرها مع ما یتعلّق بها علی ما وصل إلیه فهمی وبلغ إلیه وهمی.
قال (قدّس سرّه): وتوضیحه انّ الإستصحاب لا دلیل علی حجیّته عقلًا وما تمسّكوا به ضعیف وغایة ما یتمسّك فیها ما ورد فی بعض الروایات الصّحیحة «انّ الیقین لا ینقض بالشكّ ابداً وانّه ینقضه بیقین آخر مثله» «2» وعلی تقدیر تسلیم صحّة الاحتجاج بالخبر الواحد فی الأصول ان سلم جواز التمسّك فی الفروع نقول:
الظاهر اوّلًا انّه لا یظهر شموله للامور الخارجة مثل رطوبة الثوب و نحوها اذ یبعد ان یكون مرادهم بیان الحكم فی مثل هذا الّذی لیس حكماً شرعیّاً وان كان یمكن ان یصیر منشأ لحكم شرعی بالعرض، ومع عدم الظهور لا یمكن الاحتجاج به فیها. فهذا ما یقال: انّ الإستصحاب فی
______________________________
(1) هذه العبارة فی ص 281 من شرح الدروس و لا یوجد فی شرح هذه العبارة ما نقله المؤلّف عنه فراجع
(2) التهذیب 1/ 8
جامعة الأصول، ص: 232
الامور الخارجة لا عبرة به.
ثمّ بعد تخصّصه بالاحكام الشرعیّة. فنقول الامر علی وجهین:
أحدهما ان یثبت حكم شرعی فی مورد خاصّ باعتبار یعلم من خارج انّ زوال تلك الحالة لا یستلزم زوال ذلك الحكم والاخر ان یثبت باعتبار حال لا یعلم فیه ذلك مثال الاوّل: اذا ثبت نجاسة ثوب خاصّ باعتبار ملاقاته للبول بان یستدلّ علیها بانّ هذا شی‌ء لا قاه البول وكلّ ما لاقاه البول نجس فهذا نجس والحكم الشرعی النّجاسة و ثبوته باعتبار حال هو ملاقاة البول وقد علم من خارج ضرورة أو اجماع أو غیر ذلك بانّه لا یزول النّجاسة بزوال الملاقاة فقط.
ومثال الثانی: ما نحن بصدده فانّه ثبت وجوب الاجتناب عن الاناء المخصوص باعتبار انّه شی‌ء یعلم وقوع النّجاسة فیه بعینه وكلّ شی‌ء كذلك یجب الاجتناب عنه ولم یعلم بدلیل من خارج انّ زوال ذلك الوصف الّذی یحصل باعتبار زوال المعلومیة بعینه لا دخل له فی زوال الحكم.
وعلی ایّ تقدیر نقول: شمول الخبر للقسم الاوّل ظاهر فیمكن التمسّك بالإستصحاب فیه وامّا القسم الثانی فلا فالتمسّك فیه مشكل.
فإن قلت بعدما علم فی القسم الاوّل انّه لا یزول الحكم بزوال الوصف فأیّ حاجة إلی التمسّك بالإستصحاب وایّ فائدة فیما ورد فی
جامعة الأصول، ص: 233
الاخبار بأنّ الیقین لا ینقض الّا بمثله.
قلت القسم الاوّل علی وجهین:
احدهما: ان یثبت أنّ الحكم مثل النّجاسة بعد ملاقاة النّجس حاصل مالم یرد علیها الماء علی الوجه المعتبر فی الشرع، وحینئذٍ فائدته ان حصول الشكّ بورود الماء لا یحكم بزوال النّجاسة. والآخر ان یعلم ثبوت الحكم فی الجملة بعد زوال الوصف لكن لم یعلم انّه ثابت دائماً أو فی بعض الاوقات إلی غایة معیّنة محدودة أولا، وفائدته حینئذٍ اذا ثبت الحكم فی الجملة فیستصحب إلی ان یعلم المزیل.
ثمّ لا یخفی انّ الفرق الّذی ذكرنا من انّ اثبات مثل هذا بمجرّد الخبر مشكل- مع انضمام انّ الظهور فی القسم الثانی لم یبلغ مبلغه فی القسم الاوّل، و «انّ الیقین لا ینقض بالشّك» قد یقال انّ ظاهره ان یكون الیقین حاصلًا لولا الشكّ باعتبار دلیل دالّ علی الحكم فی صورة ما شكّ فیه، إذ لو فرض عدم دلیل علیه لكان نقض الیقین حقیقة باعتبار عدم الدّلیل الذی هو دلیل العدم لا الشكّ- كأنّه یصیر قریباً ومع ذلك ینبغی رعایة الإحتیاط فی كلّ من القسمین بل فی الامور الخارجیّة ایضاً- انتهی كلامه رفع مقامه- «1».
______________________________
(1) ما نقله المؤلّف هنا عن المحقّق الخوانساری موجود فی فرائد الاصول للشیخ الانصاری ص 629 نقلًا عن شرح الوافیة للسید الصدر القمی.
جامعة الأصول، ص: 234

[حول كلام المحقق الخونساری]

اقول: لیت شعری بأیّ جهة لا یمكن التمسّك بالإستصحاب فی القسم الثانی ولا یشمله الاخبار؟ مع انّه من المواضع الّتی اعترف بحجیّة الإستصحاب فیها.
بیان ذلك انّ الدّلیل دلّ علی وجوب الاجتناب عن النّجس فهذا امر یقینی فهذا الاناء المخصوص لما وقع فیه النّجاسة یكون وجوب الاجتناب عنه یقینیّاً فاذا اشتبه بغیره و زال عنه المعلومیّة یمكن ان یقال: قد تحقّق المنع من استعمال ذلك النّجس المعیّن فاذا وقع الشكّ لاجل الاشتباه بغیره یجب ان یستصحب إلی ان یثبت المزیل ولاشكّ انّه لو لم یكن هذا الشكّ وقطع النّظر عنه لحصل الیقین بوجوب الاجتناب فهذا الشّكّ یدفع بهذا الیقین بالاخبار المذكورة.
وظهر من هذا انّ كلامه طاب ثراه فی هذه الحاشیة مناف لما ذكرنا عنه سابقاً هذا اذا طرء الاشتباه بعد تعیّن النّجس فی نفسه كما فرضه الاستاذ العلّامة (قدّس سرّه) امّا لو كان الاشتباه حاصلًا من حین العلم بوقوع النّجاسة فیمكن ان یقال: لا یجری فیه الإستصحاب لانّه لم یحصل قبل ذلك العلم بتحقّق شی‌ء نجس متعیّن حتی یحصل الیقین بوجوب الاجتناب عنه ثمّ
جامعة الأصول، ص: 235
یستصحب ذلك ولایعبأ بالشّكّ الطّاری‌ء.
ولكن هذا غیر ما فرضه الاستاذ لعدم مدخلیّة الإستصحاب له.
نعم یمكن ان یجری الإستصحاب فیه وفی الشّق الاوّل ایضاً بطریق آخر بأن یقال: وجوب استعمال الماء الطّاهر فی الاحداث والاخباث یقینی فاذا وقع الشكّ فی الطّهارة ینبغی ان لا یستعمل ما وقع فیه الشك لانّ الیقین لا یدفع بالشكّ. الّا انّ جریان الإستصحاب بهذا النحو معارض باصالة الطّهارة فی الاشیاء وخصوص أصالة الطّهارة فی الماء لورود الاخبار الكثیرة بها.

[ما ذهب الیه الفاضل التونی]

وامّا ماذهب إلیه الفاضل التونی فاستدلّ علیه «1» بانّ الاحكام الشرعیّة ینقسم إلی ستة اقسام:
الاوّل والثانی الاحكام الاقتضائیّة المطلوب فیها الفعل وهو الواجب والمندوب، والثالث والرابع الاقتضائیّة المطلوب فیها الكفّ والترك وهی الحرام والمكروه،
______________________________
(1) هذا اوّل كلام الفاضل التونی فی الوافیة ص 201
جامعة الأصول، ص: 236
والخامس الاحكام التخییریّة الدّالة علی الاباحة، والسّادس الاحكام الوضعیّة كالحكم علی الشی‌ء بأنّه سبب لامر أو شرط له أو مانع منه. والمضایقة بمنع ان الخطاب الوضعی داخل فی الحكم الشرعی ممّا لا یضرّ فیما نحن بصدده.
اذا عرفت هذا فاذا ورد امر بطلب شی‌ء فلا یخلو امّا ان یكون موقتاً أولا وعلی الاوّل یكون وجوب ذلك الشی‌ء أوندبه فی كلّ جزء من اجزاء ذلك الوقت ثابتاً بذلك الامر، فالتمسّك حینئذٍ فی ثبوت ذلك الحكم فی الزّمان الثانی بالنّص لا بالثبوت فی الزّمان الاوّل حتی یكون استصحاباً وهو ظاهر وعلی الثانی ایضاً كذلك ان قلنا بافادة الامر التكرار والّا فذمّة المكلّف مشغولة حتی یأتی به فی ایّ زمان كان، ونسبة اجزاء الزّمان إلیه نسبة واحدة فی كونه اداء فی كلّ جزء منهما سواء قلنا بانّ الامر للفور أو لا. والتوهّم بانّ الامر اذا كان للفور یكون من قبیل الموقّت المضیّق اشتباه غیر مخفی علی المتأمّل. فهذا ایضاً لیس من الإستصحاب فی شی‌ء.
ولا یمكن ان یقال بانّ اثبات الحكم فی القسم الاوّل فیما بعد وقته من الإستصحاب فانّ هذا لم یقل به أحد ولایجوز اجماعاً.
وكذا الكلام فی النّهی بل هو اولی بعدم توهّم الإستصحاب فیه لانّ مطلقه یفید التكرار.
جامعة الأصول، ص: 237
والتخییریّ ایضاً كذلك فالاحكام الخمسة المجرّدة عن الاحكام الوضعیّة لا یتصور فیها الاستدلال بالإستصحاب.
وامّا الاحكام الوضعیّة فاذا جعل الشارع شیئاً سبباً لحكم من الاحكام الخمسة- كالدلوك لوجوب الظهر والكسوف لوجوب صلاته والزلزلة لصلاتها والایجاب والقبول لاباحة التصرّفات والاستمتاعات فی الملك والنّكاح وفیه «1» لتحریم ام الزّوجة والحیض والنّفاس لتحریم الصّوم والصّلاة إلی غیر ذلك- فینبغی ان ینظر إلی كیفیّة سببیّة السّبب هل هی علی الاطلاق كما فی الایجاب والقبول فانّ سببیّته علی نحو خاصّ وهو الدّوام إلی ان یتحقّق مزیل، وكذا الزلزلة، أو فی وقت معیّن كالدّلوك ونحوه ممّا لم یكن السّبب وقتاً وكالكسوف والحیض ونحوهما ممّا یكون السّبب وقتاً للحكم فإنّ السّببیّة فی هذه الاشیاء علی نحو آخر فإنّها اسباب للحكم فی أوقات معیّنة. وجمیع ذلك لیس من الإستصحاب فی شی‌ء فإنّ ثبوت الحكم فی شی‌ء من اجزاء الزّمان الثابت فیه الحكم لیس تابعاً للثبوت فی جزء آخر بل نسبة السّبب فی اقتضاء الحكم فی كلّ جزء نسبة واحدة.
وكذا الكلام فی الشرط أو المانع.
فظهر ممّا مرّ انّ الإستصحاب المختلف فیه لا یكون الا فی الاحكام الوضعیّة اعنی الاسباب والشرائط و الموانع للاحكام الخمسة من حیث
______________________________
(1) ای وكذا الایجاب والقبول فی النكاح لتحریم امّ الزوجة.
جامعة الأصول، ص: 238
انّها كذلك ووقوعه فی الاحكام الخمسة انّما هو بتبعیّتها كما یقال فی الماء الكرّ المتغیرّ بالنّجاسة اذا زال تغیّره من قبل نفسه: بانّه یجب الاجتناب عنه فی الصّلاة لوجوبه قبل زوال تغیّره، فانّ مرجعه إلی انّ النّجاسة كانت ثابتة قبل زوال تغیّره فیكون كذلك بعده. ویقال فی المتیمّم اذا وجد الماء فی اثناء الصّلاة: انّ صلاته كانت صحیحة قبل الوجدان فكذا بعده ای كان مكلّفاً ومأموراً بالصّلاة بتیمّمه قبله، فكذا بعده، فإنّ مرجعه إلی: انّه كان متطهّراً قبل وجدان الماء فكذا بعده فالطّهارة من الشروط.
فالحقّ مع قطع النظر عن الرّوایات عدم حجیّة الإستصحاب لانّ العلم بوجود السّبب والشرط والمانع فی وقت لا یقتضی العلم بل ولاالظّن بوجوده فی غیر ذلك الوقت كما یخفی فكیف یكون الحكم المعلّق علیه ثابتاً فی غیر ذلك الوقت؟
فالّذی یقتضیه النظر بدون ملاحظة الرّوایات انّه اذا علم تحقّق العلامة الوضعیّة تعلّق الحكم بالمكلّف واذا زال ذلك العلم یطرؤ الشّك بل والظّن ایضاً یتوقّف عن الحكم بثبوت الحكم الثابت اوّلًا.
إلّا انّ الظاهر من الاخبار انّه اذا علم وجود شی‌ء فانّه یحكم به حتی یعلم زواله- انتهی كلامه- «1».
اقول: فی كلامه رحمه اللَّه مواضع للانظار.
______________________________
(1) وافیة الاصول ص 201- 203
جامعة الأصول، ص: 239
الاوّل: قوله: «وعلی الاوّل یكون وجوب ذلك الشی‌ء أو ندبه إلی آخره-» والایراد علیه انّا نسلّم انّ الامر اذا كان موقتاً یكون ثبوت الحكم فی جمیع ذلك الزّمان بالنّص ولكن اذا حصل الشك فی دخول الوقت الّذی هو الغایة فلا یمكن رفع هذا الشكّ الّا بالإستصحاب بناء علی انّ الیقین لا ینقض بالشكّ وهو ظاهر لامریة فیه.
الثانی: قوله: «وعلی الثانی ایضاً كذلك- إلی آخره-» والایراد علیه انّ الامر اذا كان للفور نسلّم انّ الحكم یكون ثبوته فی جمیع الزمان لاجل هذا الامر الّا انّه اذا وقع شكّ فی ثبوت ذلك الحكم فی جزء من الزّمان باعتبار معارض أو شی‌ء یمكن رفع هذا الشكّ بالإستصحاب ولایمكن رفعه بهذا الامر كما تقدّم.
الثالث: انّه یمكن جریان الإستصحاب فی مواضع اخر ایضاً كما تقدّمت مفصّلة.
الرّابع: انّ ما ذكره آتٍ فی الاحكام الوضعیّة ایضاً، فإنّ الشارع اذا جعل شیئاً سبباً لشی‌ء آخر علی الاطلاق یكون تحقّق السّببیّة إلی ان یتحقّق المزیل لقول الشارع لا بالإستصحاب، بناء علی ما ذكره وان كان الحقّ خلافه لانّ فی صورة الشكّ لا یمكن رفعه الّا بالإستصحاب.
جامعة الأصول، ص: 240

البحث الخامس: فی شروط العمل بالإستصحاب.

اعلم انّ للعمل بالإستصحاب شروطاً ذكرها العلماء ولابدّ من مراعاتها:
الاوّل: انّ لا یكون هنا استصحاب آخر معارض له كما اذا سقطت ذبابة علی نجاسة رطبة ثمّ علی الثوب أو البدن مثلًا وشكّ فی جفافها فقد تعارض هنا إستصحاب الرطوبة وإستصحاب طهارة الثوب فلا یمكن العمل باحد الاستصحابین فیجب ان ینظر إلی المرجحات الخارجیّة وكما اذا شكّ السیّد فی موت عبده الآبق فاجزاء عتقه عن الكفارة بناء علی إستصحاب الحیاة معارض بإستصحاب شغل الذّمة ومن هذا القبیل مسألة الجلد المطروح، فإنّ إستصحاب عدم الذبح فیه معارض بإستصحاب الطهارة وإستصحاب عدم الموت.
الثانی: ان لایكون هناك دلیل شرعی یدلّ علی نفی الحكم الثابت أوّلًا.
الثالث: ان یكون الحكم المستصحب ثابتاً فی الوقت الاوّل حتی یمكن ان یجری الحكم منه إلی الوقت الثانی.
الرابع: ان لا یحدث فی الوقت الثانی ما یوجب زوال الحكم جزماً.
جامعة الأصول، ص: 241
وقد ذكر جمع من العلماء شروطا اخر الّا انّ كلّها راجع إلی عدم وجود المعارض وحدوث المزیل، وهذا ضابطة كلیّة یجب مراعاتها حتی یكون العمل بالإستصحاب صحیحاً.

البحث السادس: فی ذكر بعض الامثلة التی یتفرّع علی قاعدة الإستصحاب.

منها: إستصحاب الطّهارة أو الحدث عند الشّك فی المزیل.
ومنها: إستصحاب بقاء الیوم فی رمضان عند الشّك فی الغروب فیحرم الاكل.
ومنها: إستصحاب بقاء اللیل فیه عند الشكّ فی طلوع الفجر فیجوز الاكل.
ومنها: إستصحاب التحریم عند الشّكّ فی انقضاء العدّة.
ومنها: استصحاب شغل الذمّة عند الشّك فی فراغها فی اداء الزكاة والخمس.
ومنها: إستصحاب فراغها عند الشّك فی شغلها فی بلوغ النّصاب.
ومنها: إستصحاب الحلیّة عند الشّكّ فی بلوغه نصاب الرّضاع.
ومنها: إستصحاب عادة الحائض عند الشّكّ فی انقضائها فلا تصلیّ.
جامعة الأصول، ص: 242
ومنها: إستصحاب جواز تصرّف الولی فی مال الطفل عند الشكّ فی بلوغه.
ومنها: إستصحاب الطهارة عند خروج المذی والشّكّ فی كونه ناقضاً.
ومنها: إستصحاب الطّهارة لو كان الماء كرّاً فوجد متغیّراً وشكّ فی انّ تغیّره من النّجاسة أو من شی‌ء طاهر.
ومنها: انّه لو وجد فی ثوبه منیّاً وشكّ فی كونه من آخر نومه أو تقدّمه علیه فانّه یحكم بكونه من آخر نومه لإستصحاب عدمه إلی حصول الیقین.
ومنها: انّه لو علم نجاسة الماء ثمّ شكّ فی كونه كرّاً فیحكم بنجاسته استصحاباً لها إلی ان یحصل الیقین.
والقول بانّه من باب تعارض الأصلین بناء علی انّه یمكن ان یقال: انّ الیقین بالطّهارة حاصل لانّ الأصل فی الماء الطّهارة وحصل الشكّ فی تأثیره بالنّجاسة مدفوع بأنّه لا معنی لاصالة الطّهارة بعد العلم بالنّجاسة.
ومنها: إستصحاب الطّهارة اذا علم بالنّجاسة بعد الطّهارة وشكّ فی تقدمها وتأخّرها.
ومنها: لو تعارض الملك القدیم والید الحادثة ففی الترجیح قولان، ونظر من قال بترجیح الاوّل إلی إستصحاب الملك.
جامعة الأصول، ص: 243
ومنها: إستصحاب عدم العیب أو سبقه علی العقد لو ادعی المشتری أحدهما وانكره البائع. وكذا لو ادّعی البائع فی القیمة وانكره المشتری.
ومنها: لو اتّفق الوصیّ والیتیم علی الانفاق من یوم موت الموصی إلی وقت الدّعوی، ولكن اختلفا فی یوم الموت، مثل ان یقول الوصیّ من یوم الموت إلی هذا الوقت سنتان وقال الیتیم: بل سنة، فیقبل قول الیتیم استصحاباً لحیاة الموصی.
ومنها: لو اختلف الوارث والموهوب له فی تحقّق الهبة أو غیرها من التبرّعات فی الصّحة أو المرض. فان علم موت الواهب المورث فی المرض فالقول قول الوارث نظراً إلی استصحاب عدم تحقّق الهبة فی الصّحة، وإن لم یعلم ذلك بل احتمل ان یكون هلاكه فجاءة أو بالقتل، فقیل حینئذٍ: یقدّم قول الموهوب له نظراً إلی أصالة العدم، وقیل: یقدم قول الوارث مطلقاً نظراً إلی الغالب فیكون من باب تعارض الأصل والظاهر فتفكّر.
ومنها: إستصحاب صحّة الصّلاة أو الصّوم والاعتكاف أو غیر ذلك من العبادات عند الشّك فی عروض مبطل.
والامثلة لهذا الأصل كثیرة لانّه كثیر الفروع، الّا انّ ما ذكرناه كاف للتفریع.
جامعة الأصول، ص: 245

الفصل السادس فی أصالة عدم تقدّم الحادث‌

مثاله كما اذا استعمل ماء ووجد فیه نجاسة بعد الاستعمال وحصل الشّك فی وقوعها قبل الاستعمال أو بعده، فیقال: الأصل عدم الوقوع قبله، لانّ الأصل عدم تقدّم الحادث.
وهذا الأصل داخل تحت أصل العدم لانّه راجع إلی انّ الأصل فی الممكن العدم.
بیان ذلك: انّه لما وقع الشكّ فی تقدّم النّجاسة علی الاستعمال وتأخّرها عنه، والنّجاسة من الممكنات، والأصل فیها العدم إلی ان یحصل الیقین، وتقدّمها علیه غیر معلوم، فینفی ویؤخذ بالتأخّر الّذی هو المتیقّن.
وبینهما عموم وخصوص مطلقاً یعنی أصل العدم اعمّ مطلقاً من أصل تأخّر الحادث.
جامعة الأصول، ص: 246
بیان ذلك: ان حقیقة أصل عدم تقدّم الحادث راجعة إلی انّا نجزم بتحقق الحادث فی الخارج الّا انّا نشكّ فی انّه هل تحقّق فی زمان متقدّم أو متأخّر؟ ولما كان تحقّقه فی الزّمان المتقدّم غیر متیقّن ینفی فیه، واذا نفی فیه لا بدّ ان یؤخذ ما هو المتیقّن، فالنّفی فی الزّمان المتقدّم بناء علی انّ الأصل فی الحادث هو التمسّك باصل العدم. فكلّ أصل عدم التقدّم یصدق علیه أصل العدم، بخلاف العكس، فانّه اذا شكّ فی تحقق وجود ممكن فی زمان فنفی وجوده فیه یصدق علیه أصل العدم ولا یصدق علیه أصل تقدّم الحادث لعدم وقوع الشّك فی التقدّم والتأخّر.
ثمّ انّك قد علمت فی أصل العدم انّه مركّب من أصل البراءة وإستصحاب حال العقل، یعنی انّه اذا كان الممكن الّذی وقع فی وجوده الشّك هو التكلیف كالحرمة والوجوب وغیرهما من الاحكام یمكن نفیه بادلّة البراءة مع قطع النّظر عن ملاحظة الحالة السّابقة واجراء الحكم منها إلی اللّاحق فحینئذٍ یرجع إلی البراءة الاصلیّة، وإن امكن نفیه بالملاحظة المذكورة ایضاً حتی یكون إستصحاب حال العقل. وان لم یكن الممكن المذكور تكلیفاً بل كان شیئاً آخر فلا بدّ من ملاحظة عدمه الاصلی واستمراره إلی الزّمان الّذی وقع فیه الشّك، فنفی وجوده فی الزّمان المشكوك فیه یكون من إستصحاب حال العقل.
ودلیل حجیّته حینئذٍ هو دلیل حجیّة إستصحاب حال العقل.
واذا عرفت هذا تعلم انّ حال أصل عدم تقدّم الحادث ایضاً كذلك
جامعة الأصول، ص: 247
لانّه اذا كان نوعاً من أصل العدم فدلیل حجیّة أصل العدم یجری فیه ایضاً بلا تفاوت.
ثمّ اعلم انّه قال بعض المتأخرین: كما كان الاستدلال باصل البراءة مشروطاً بان لایثبت حكماً شرعیّاً من جهة اخری، فكذا الحكم هنا بعینه. مثلًا اذا استعمل أحد ماء ثمّ ظهر له انّ هذا الماء كان قبل ذلك فی زمان نجساً ثمّ طهّر بالقاء كرّ علیه دفعة ولم یعلم انّ التطهیر هل كان قبل الاستعمال أو بعده؟ فلا یصحّ ان یقال: الأصل عدم تقدّم تطهیره فیجب اعادة غسل مالاقی ذلك الماء فی ذلك الاستعمال، لانّه اثبات حكم بلا دلیل، فانّ حجیّة الأصل فی النفی باعتبار قبح تكلیف الغافل ووجوب اعلام المكلّف بالتكلیف، فلذا یحكم ببراءة الذمّة عند عدم الدّلیل، فلو ثبت حكم شرعی بالاصل یلزم اثبات حكم من غیر دلیل وهو باطل اجماعاً- انتهی- «1».
اقول: فیه نظر لانّا نسلّم ما ذكر هذا القائل فی أصل البراءة عن التكالیف وقد ذكرنا ذلك مفصّلًا قبل ذلك فی بحث أصل البراءة، وقد بیّنا انّ مقتضی ادلّة حجیّة أصل البراءة نفی التكلیف فاذا كان الاستدلال باصل البراءة مستلزماً للتكلیف من جهة اخری فهو ساقط عن درجة الاعتبار.
وامّا أصل العدم وأصل تأخّر الحادث فان كان الحادث المقصود نفیه هو التكلیف، و كان الاستدلال علی نفیه باعتبار ادلّة البراءة حتی یكون
______________________________
(1) وافیة الاصول ص 187
جامعة الأصول، ص: 248
أصل البراءة فالحكم فیهما ایضاً كذلك.
وامّا ان لم یكن الحادث المقصود نفیه من التكالیف الشرعیّة، أو كان ولكن لم یكن الاستدلال علی نفیه بادلّة البراءة، بل بادلّة إستصحاب حال العقل، لا یكون الحكم فیه كذلك لانّ الاستدلال فی هاتین الصّورتین یكون من إستصحاب حال العقل وهو جار فی كلّ الممكنات سواء كان الاستدلال به مستلزماً لاثبات تكلیف اخر أم لا، كیف وادلّة إستصحاب حال العقل هی بعینها ادلّة إستصحاب حال الشرع وهی مبقیة للتكالیف وبالجملة انّ هذا الشّرط مختصّ باصل البراءة وهو ظاهر لا یشكّ فیه لبیب ماهر.
نعم حجّیّة أصل العدم وأصل عدم تقدّم الحادث مشروطة بعدم تعارضهما مع مثلهما أو شی‌ء آخر من الادلّة والامارات هذا.
وقال بعض الافاضل من المتأخرین: یشترط فی الامر المتمسّك فیه بالاصل، ان لایكون جزء عبادة مركّبة، سواء كان الأصل أصل البراءة أو أصل عدم تقدّم الحادث، فلا یجوز التمسّك به فی نفیه لو وقع الاختلاف فیه فی ثبوته ونفیه «1».
وقال: ما حاصله: هذه العبادة المركّبة امّا ورد نصّ فی بیان اجزائها أم لا، فإن ورد فیه نصّ ولم یكن هذا النّص مشتملًا علی هذا الجزء المختلف
______________________________
(1) اصل هذا الكلام فی وافیة الاصول 195 ولعلّ ذیله و التوضح من السیّد الصدر القمی فراجع
جامعة الأصول، ص: 249
فیه فیكون هذا الجزء منفیاً بالنّص لا بالاصل، وان لم یرد فیها النّص فلا یمكن نفیه بالاصل، لانّ العبادة توقیفیّة موقوفة علی بیان الشارع فإذا لم یرد بیان من الشارع یجب ان یعمل جمیع المحتملات حتی یحصل الیقین بالبراءة لانّ شغل الذّمة الیقینی یحتاج إلی البراءة الیقینیّة.
اقول: هذا الكلام فی غایة الوهن والضعف وذلك لانّه یرد علی الصّورة الاولی اعنی ورد النّص انّ النّص الّذی ورد لبیان الاجزاء اثبت بعض الاجزاء ولم یثبت منه نفی هذا الجزء الّذی یراد نفیه بالاصل لانّه ان ثبت نفی هذا الجزء لا ینتفی بالاصل، لانّ المفروض، الجزء الّذی لم یدلّ النّص صریحاً علی نفیه، فحینئذٍ كیف یكون هذا الجزء منفیّاً بالنّص بل نفیه محتاج إلی ضمیمة الأصل.
ویرد علی الصّورة الثانیة- اعنی عدم ورود النّص- ایضاً انّ الجزء المشكوك فیه ایضاً یمكن نفیه بالاصل، لانّ الادلّة الدّالة علی ثبوت البراءة الاصلیّة شاملة لجمیع اقسامها سواء كانت فی العبادة أو غیرها، وموقوفیّة العبادة علی بیان الشارع لاینافی اجراء أصل البراءة فیها، بل مؤكّده له، لانّ العبادة إذا كانت بیانها من الشارع فكلّ جزء منها لم یثبت من الشّارع یجب ان یترك حتی لا یلزم ان یجعل من العبادة شی‌ء لیس من الشارع مع انّ اجراء أصل البراءة ایضاً من الشارع، لانّ ثبوته من نصّه وبیانه.
والقول بانّه إذا علم ثبوت عبادة مركّبة وحصل الشّك فی اجزائه یجب ان یعمل جمیع محتملاته لانّ شغل الذمّة الیقینی یحتاج إلی البراءة
جامعة الأصول، ص: 250
الیقینیّة ساقط عن درجة الاعتبار، لانّ المحتاج إلی البراءة الیقینیّة هو القدر المتیقّن ثبوته من الشارع لا القدر المشكوك ایضاً. مع انّ هذا مشترك بین العبادة وغیرها ایضاً فالتخصیص بالعبادة تحكّم، فتأمّل.
جامعة الأصول، ص: 251

الفصل السابع فی أصل التمسّك بعدم الدلیل‌

فیقال: عدم الدلیل علی الحكم الكذائی یدلّ علی انتفائه. مثاله ان یقال: لا یجب علی الولی منع الصّبیان من مسّ المصحف لانّ عدم الدّلیل علی الوجوب یدلّ علی انتفاءه.
وقال الشهید فی الذّكری: مرجع هذا الأصل إلی البراءة الاصلیّة «1» لانّ ما یلزم من هذا الأصل اسقاط التكلیف لا نفی الحكم الواقعی.
إذا عرفت هذا فاعلم انّ جماعة من العامّة ذهبت إلی انّ عدم المدرك مدرك العدم، یعنی ان كلّ حكم لم یكن علیه دلیل فهذا یدلّ علی نفی هذا الحكم فی الواقع، وهذا باطلاقه لیس عندنا صحیحاً لانّ مذهبنا انّ لكلّ
______________________________
(1) الذكری 1/ 53
جامعة الأصول، ص: 252
قضیّة وواقعة حكماً مودعاً عند ائمّتنا صلوات اللَّه علیهم اجمعین «1» الّا انّهم (علیهم السّلام) لم یتمكّنوا من اظهار الجمیع للتقیّة وغیرها. فكلّ حكم لم یصل الینا مدركه لا یمكن لنا ان نحكم بعدمه فی الواقع، إذ یمكن ان یكون له مدرك عند الائمّة (علیهم السّلام) الّا انّه یكون من الاحكام التّی لم یتمكّنوا (علیهم السّلام) من اظهاره. بل حینئذٍ عدم المدرك یدلّ علی انتفاء التكلیف فی حقّنا لا علی نفی الحكم فی الواقع نعم هذا الحكم ان كان ممّا یعمّ به البلوی ولم یكن علیه مدرك شرعی یمكن الحكم بنفی الحكم فی الواقع لانّه لاشكّ انّ الاحكام الّتی یعمّ بها البلوی ویحتاج النّاس الیها كثیراً صدرت من الائمّة (علیهم السّلام) ولذا حكم جمع من محقّقی اصحابنا بأنّ عدم المدرك فی الاحكام الّتی یعمّ بها البلوی مدرك العدم فی الواقع فإذا بذل الفقیه جهده واستفرغ وسعه فی الامور الّتی یعمّ بها البلوی ومع ذلك لم یجد علیها مدركاً یحصل له الظّن التّام بعدم الحكم فی الواقع.
قال المحقّق (قدّس سرّه) فی المعتبر: وهذا یصحّ فیما علم انّه لو كان هناك دلیل لظفر به امّا لا مع ذلك فیجب التوقّف ولایكون ذلك الاستدلال حجّة «2».
وقد تمسّك العلامّة (قدّس سرّه) ایضاً بهذا الأصل فی مقام الاستدلال علی الامور التی یعمّ بها البلوی.
______________________________
(1) الفصول المهمّة 1/ 480
(2) المعتبر ص 7 الطبع الحجری
جامعة الأصول، ص: 253
قال (قدّس سرّه) فی المختلف فی الاستدلال علی عدم نقض الوضوء بخروج المذی: انّه ممّا یعمّ به البلوی ویحصل لاكثر النّاس فی اكثر الاوقات فلو كان ناقضاً لوجب ان یعلم من الدّین كما علم نقض الوضوء بالغائط والتالی باطل لعدم النقل الظاهر فیه فالمقدّم مثله. جامعة الأصول 253 الفصل السابع فی أصل التمسك بعدم الدلیل
ّ قال: لا یقال: عمومیّة البلوی به یستلزم معرفة حكمه امّا بالنّقض أو عدمه، فنقول: لو لم یكن ناقضاً لعلم ذلك من دین النّبیّ صلی اللَّه علیه وآله لما قلتم والتالی باطل لانّ الجمهور كافّة یخالفون فی ذلك.
لانّا نقول لا یشترط نقل احكام العدم، بل ولا النّص علیها لانّها باقیة علی الأصل، وانّما المفتقر إلی النّقل الثبوت الرافع لحكم الأصل- انتهی «1».
فظهر انّ بناء هذا الأصل علی نفی الحكم فی الواقع فی الامور الّتی یعمّ بها البلوی، وأصل البراءة علی نفی التكلیف لا علی الحكم فی الواقع، ولذا عدّا قسمین فحینئذٍ یكون هذا الأصل اخصّ مطلقاً من أصل البراءة فكلمّا تحقّق هذا الأصل تحقّق أصل البراءة لاستلزام اسقاط الحكم فی الواقع اسقاط التكلیف به، بخلاف العكس واللَّه یعلم.
______________________________
(1) المختلف 1/ 94- 95 طبع 1412
جامعة الأصول، ص: 255

الفصل الثامن فی أصل الاخذ بالاقلّ عند فقد الدّلیل علی الاكثر

كما إذا قیل فی عین الداّبه نصف قیمتها، فیرد علیه بأنّ الربع ثبت اجماعاً فینفی الزائد بالاصل.
والحقّ انّ هذا الأصل شعبة من أصل البراءة، ولذا عدّة المحقّق فی المعتبر منها «1» وقال الشهید فی الذكری انّه راجع الیها «2».
وإذا كان داخلًا تحت أصل البراءة فدلیل حجیّته ظاهر.
وقیل: ان التمسّك بهذا الأصل لا یكاد یصحّ الّا ان یعلم اجماع شرعی أو دلیل آخر علی ثبوت الاقل والّا فشغل الذمّة معلوم فیجب العلم بتحصیل براءة الذمّة وهی لا تعلم بالاقلّ «3».
______________________________
(1) المعتبر ص 6
(2) الذكری 1/ 53
(3) الوافیة 198
جامعة الأصول، ص: 256
اقول: هذا الكلام محلّ تأمّل ونظر وذلك لانّ ما یحتاج إلی تحصیل البراءة الیقینیّة هو القدر المتیقّن من التكلیف لا القدر المشكوك ایضاً ففی عین الدّابة مثلًا ان علمنا انّ الربع ثابت جزماً والباقی مشكوك فیه فنأخذ بالثابت ونترك المشكوك فیه كما اعترف به هذا القائل ایضاً. وامّا إذا لم یثبت هذا الاقلّ ایضاً بل القدر المتیقّن لنا انّ فی عین الدّابة شیئاً من الدّیّة ولم یكن شی‌ء من الربع أو الاكثر متیقناً، فحیئنذٍ یجب ان یؤخذ باقلّ ما یصدق علیه اسم الدّیة، لانّ هذا القدر هو المتیقّن والباقی مشكوك فیه بناء علی عدم حصول شغل الذمّة الیقینی به. فحینئذٍ إذا حصل الشّك فی وجوب اقلّ ما یصدق علیه اسم الدّیّة ایضاً، بمعنی ان یحصل الشكّ فی أصل التكلیف بالدیّة فینفی الجمیع بالاصل ولایكون حینئذٍ من هذا الأصل.
وبالجملة الاقلّ ان كان معلوماً فیؤخذ به ویترك الباقی، وان لم یكن هو ایضاً معلوماً فهو ایضاً متروك لحصول الشّك فی أصل التكیلف، فكیف یحصل شغل الذّمة الیقینی حتی یحتاج إلی البراءة الیقینیّة.
جامعة الأصول، ص: 257

الفصل التاسع فی انّ الأصل فی الكلام الحقیقة

اعلم انّه قد اشتهر عند الطّلبة انّ الأصل فی الكلام الحقیقة ولكنّه اشتبه علی كثیر منهم حقیقة الامر، ولذا یوردونه فی غیر موضعه، فینبغی لنا ان نشیر إلی الصّور المتصّورة فی هذه المسألة ونشیر إلی انّ غرض القوم ای صورة من الصّور المذكورة فنقول: ههنا صور:
الاولی: لا كلام فی انّ اللفظ إذا كان مع القرینة الدّالّة علی المعنی الحقیقی یجب حمله علیه. وكذا إذا كان معه قرینة صارفة عن معنی الحقیقی دالّة علی المعنی المجازی یجب حمله علیه. فهذا لا دخل له بما نحن فیه.
الثانیة: إذا كان الاستعمال معلوماً ولم یعلم انّ هذا الاستعمال علی سبیل الحقیقة او المجاز، ولم یعلم فی الخارج انّ لهذا اللّفظ معنی حقیقیّاً أو مجازیاً بل كان المعلومیّة منحصرة فی انّ اللفظ مستعمل فی هذا المعنی
جامعة الأصول، ص: 258
الّذی لایعلم انّه فیه حقیقة أو مجاز، فالمشهور بین القوم انّ هذا الاستعمال اعمّ من الحقیقة والمجاز ولا یجزم باحدهما.
وذهب سیّدنا الاجلّ المرتضی إلی انّ الأصل فی الاستعمال فی هذه الصّورة الحقیقة «1».
وذهب بعض المحقّقین من المتأخرین إلی انّ الأصل فیه المجاز نظراً إلی كثرة ورود المجاز فی الشرع والعرف واللّغة «2».
ولا شكّ انّ الحقّ مع المشهور لانّ اطلاق هذا اللفّظ فی هذا المعنی یحتمل الحقیقة والمجاز والحمل علی أحدهما محتاج إلی قرینة، فبدونها یلزم الترجیح بلا مرجّح. فهذا ایضاً لا دخل له بما نحن فیه.
الثالثة: إذا علم للفظ معنی حقیقی واستعمل فی معنی آخر ولكن لا یعلم انّ هذا المعنی الثانی حقیقی حتی یكون اللفظ مشتركاً أو مجازی ولم یصدق علیه امارات المجاز من عدم التّبادر وصحّة السّلب.
والمشهور حینئذٍ بین القوم انّ الاستعمال فی هذا المعنی الثانی بعنوان المجاز لانّ الأصل عدم تعدّد الحقیقة وعدم الاشتراك والسیّد هنا ایضاً مخالف للمشهور ویقول انّ هذا المعنی الثانی ایضاً حقیقی ویكون اللفظ مشتركاً «3» وغیر خفی انّ الحقّ هنا مع المشهور لما ذكرنا.
______________________________
(1) الذریعة إلی اصول الشریعة ص 13 و 19 و 27 و 29 و 183 و 202 و 205 و 206
(2)-
(3) الذریعة 183 و 202 و 205 و 206
جامعة الأصول، ص: 259
الرابعة: إذا كان للفظ معنی حقیقی ومجازی وكان المعنیان معلومین بعنوان انّ احدهما حقیقة والاخر مجاز واطلق الشارع أو غیره هذا اللفظ بدون القرینة بحیث لم یعلم من القرینة انّ المتكلّم ای المعنیین اراد، فالظاهر الاتفاق علی انّه یجب حمله علی معناه الحقیقی، وهذا هو مراد القوم من انّ الأصل فی الكلام الحقیقة. ومن لم یحصّل المرام واشتبه علیه غرض الاقوام یزلّ قدمه كثیراً ما فی هذا المقام.
وامّا الدّلیل علی انّه یجب حمل اللّفظ فی هذه الصورة علی المعنی الحقیقی فهو انّه لا شكّ انّ المخاطب لا یفهم من هذا اللفظ بدون القرینة الّا المعنی الحقیقی لانّه المتبادر إلی فهمه وانّه مصطلحه، ومع ذلك إذا كان غرض المتكلّم المعنی المجازی، یلزم الاغراء بالجهل والتكلیف بما لا یطاق.
ویدلّ علیه ایضاً انّ بناء جمیع ارباب المحاورات من ایّ فرقة كانت علی ذلك، كما یظهر من المتتبّع لأقاویلهم وكلماتهم وینكشف من التطلّع علی اساطیرهم وعباراتهم.
ویدلّ علی انّ الاطلاق فی كلام الشارع كذلك- مضافاً إلی ما ذكرنا- قوله سبحانه: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ «1» ومارود عن بعض الصّادقین صلوات اللَّه وسلامه علیهم اجمعین انّ اللَّه اجلّ من ان
______________________________
(1) إبراهیم: 4
جامعة الأصول، ص: 260
یخاطب مع قوم ویرید منهم خلاف ما هو بلسانهم وما یفهمونه «1».
وغیر خفی انّ هذا الأصل داخل تحت القاعدة وذكر الشهید الثانی «2» انّه داخل تحت الراجح وهو صحیح ایضاً نظراً إلی أنّ الغالب حمل اللفظ علی المعنی الحقیقی.
______________________________
(1) بحار الانوار 24/ 300: عن ابی عبداللَّه (علیه السّلام) ما كان اللَّه عزّوجلّ لیخاطب خلقه بما لا یعلمون.
ولم اقف علی الروایة باللفظ الّذی رواه المؤلّف (قدّس سرّه)
(2) تمهید القواعد ص 32
جامعة الأصول، ص: 261

الفصل العاشر: فی أصالة نفی التخصیص والتقیید والنّسخ والاشتراط

ولایخفی انّ هذا الأصل شعبة من أصل العدم، لانّ كلًّا من التخصیص والتقیید والنّسخ والشرط امر وجودی لا بدّ اثباته «1» من دلیل، فالاصل عدمه حتی یثبت من قبل الشارع، فما لم یثبت جزماً یمكن للفقیه التمسّك باصالة عدمه.
نعم اختلف الاصولیون فی انّه هل یجوز ان یحكم بالعموم والاطلاق قبل الفحص عن المخصّص والمقیّد أم لا؟ فمال ثلّة من الاوّلین إلی الجواز وكثیر من الاخرین إلی عدم الجواز.
والحقّ عدم الجواز لانّ المجتهد یجب علیه البحث والتفتیش فی كلّ مایتعلّق بالمسألة الّتی یرید ان یستنبطها، ومن جملة ذلك البحث عن
______________________________
(1) لاثباته.
جامعة الأصول، ص: 262
المخصّص والمقیّد، وكیف لا مع انّه یجب ان یحصل للمجتهد الظنّ الشرعی بالطّرف المحكوم علیه ومع عدم الفحص لا یحصل له ذلك، لانّ كثرة المخصّص والمقیّد مانع عن ذلك، ولذا قیل: ما من عامّ الّا وقد خصّ، فیجب علیه الفحص حتی یحصل له الظّن الشرعی بعدم المخصّص والمقیّد.
وما قیل من انّه یجب الفحص حتی یحصل القطع بعدم المخصّص، غیر ملتفت إلیه، لانّه لا سبیل لنا إلی القطع ولذا جاز العمل بالظّن فی الاحكام الشرعیّة.
واستدلّ القائل بعدم اشتراط الفحص بانّه لو لم یجز التمسّك بالعامّ قبل الفحص لوجب ان لا یجوز التمسّك بالحقیقة قبل الفحص عن المجاز.
والجواب انّا حكمنا بعدم الجواز فی العامّ والمطلق لكثرة المخصّص والمقیّد، بخلاف الحقیقة والمجاز فاّن المجاز لیس فی الكثرة كالمخصّص، مع انّ أحداً لم یقل بأنّه یجب الفحص عن المجاز. واللَّه العالم بحقائق الامور.
جامعة الأصول، ص: 263

الفصل الحادی عشر فی انّ الأصل فی الاشیاء الطّهارة

قال بعضهم: هذا الأصل داخل تحت القاعدة لانّ الطّاهر هو ما ابیح ملابسته فی الصّلاة اختیاراً والنّجاسة ما حرم استعماله فی الصّلاة، فالشارع لمّا امرنا بالصّلاة مستقبلًا طاهراً ساتراً للعورة تحصل هذه المهیّة بأیّ فرد كان والبدن متلطّخاً «1» بأیّ شی‌ء كان وكذا الثوب متلطّخاً «2» بأیّ شی‌ء كان فإذا خرج بعض الاشیاء وهو النّجاسات بقی الباقی علی عدم ما نعیّته من الصّلاة وتحقّق الصّلاة معه، وهو معنی الطهارة، فیكون طهارة الاشیاء مستفادة من الامر بالصّلاة مع السّاتر ساكتاً عمّا عدا النجاسات اذا كانت فی البدن أو الثوب- انتهی- «3».
______________________________
(1) .................
(2) 1 و 2- كذا.
(3) وافیة الاصول ص 184
جامعة الأصول، ص: 264
وخلاصة كلامه انّ الشارع امرنا بالصّلوة مع الطّهارة ومنعنا منها مع النّجاسات وبیّن انّ النّجاسات ما هی وسكت عن غیره فیعلم انّ غیر ما بیّن نجاسته علی الطّهارة.
ولایخفی انّ العلم بذلك یحتاج امّا إلی ضمیمة أصل العدم أو أصل البراءة، والّا فمن این یعلم انّ الامر والسّكوت المذكورین یدلّان علی ذلك؟ فهذا الأصل فی الحقیقة هو أصل البراءة لأنّ النّجاسة تكلیف یحتاج إلی الثبوت فما لم یتیقّن ثبوته یمكن اجراءِ أصل البرآءة فیه.
ویمكن ان یكون داخلًا تحت أصل الاباحة لانّه إذا كان الأصل فی الاشیاء الاباحة والحلیّة باعتبار الایات والاخبار كما عرفت مفصّلًا، فالاصل الطّهارة ایضاً لانّ حلیّتها موقوفة علی طهارتها فما یثبت حلیّته یثبت طهارته ایضاً.
ثمّ لایخفی انّه قد ورد بعض الاخبار عن الصادقین صلوات اللَّه علیهم اجمعین یدلّ علی طهارة الاشیاء كقولهم علیهم السلام: كلّ شی‌ء نظیف حتی یعلم انّه قذر «1».
فإن تمّ الاستدلال بهذا الخبر یكون هذا الأصل تحت القاعدة الّا انّ لبعضهم تامّلًا فی اثبات هذا الأصل العظیم بامثال هذه الاخبار فالحقّ حینئذ ما قدّمناه.
______________________________
(1) الوسائل 3/ 467 نقلًا عن التهذیب 1/ 284
جامعة الأصول، ص: 265

الفصل الثانی عشر فی ذكر بعض الأصول المتداولة فی السنتهم الداخلة تحت الأصول المذكورة والاشارة إلی انّ كلّ واحد منها داخل تحت أیّ أصل من الأصول المذكورة.

فمنها قولهم: الأصل عدم بلوغ الماء كرّاً

والحقّ ان هذا ان كان علی سبیل التدریج یكون داخلًا فی «الإستصحاب» وذلك لانّه إذا دخل قلیل من الماء فی موضع وكان قلته یقینیّة ثمّ شرع بالتدریج یدخل فیه ماء فالاصل بقاء القلّة علی ماكان أوّلًا حتی یحصل الجزم ببلوغه كرّاً.
وامّا إذا القی مقدار من الماء فی موضع دفعة وحصل الشكّ فی انّ هذا الماء هل هو كّر أم لا؟ لایمكن ان یكون داخلًا تحت الإستصحاب
جامعة الأصول، ص: 266
لانّه فی اوّل الامر كان كلّ من القلّة والكثرة مشكوكاً فیه ولم یتحقّق القلّة فی الاوّل یقیناً حتی یق: الأصل بقاؤه علی ما كان، فالظاهر انّه داخل تحت «الأصل بمعنی الاخذ بالاقلّ عند فقد الدّلیل علی الاكثر» وذلك لانّ وجود ماء اقل من الكرّ یقینی وانّما الشكّ فی الزیادة.

ومنها: الأصل عدم اجزاء كلّ من الواجب والندب عن الاخر

وهذا داخل تحت «القاعدة» لانّ الواجب ما فی فعله مصلحة وفی تركه مفسدة، والندب ما فی فعله مصلحة و فی تركه لیس مفسدة، فهما امران مختلفان، وقال الشارع: انّما الاعمال بالنیّات ولكلّ امرء ما نوی «1» فیفهم من كلام الشارع انّ براءة الذمّة من التكلیف انّما یحصل إذا اتی المكلّف بالمأمور [به] علی وجهه فالاتیان به علی وجهه قاعدة مستفادة من الشارع.
قال الشهید (قدّس سرّه) فی قواعده: الفائدة الخامسة: الأصل انّ كلًّا من الواجب والندب لا یجزی عن صاحبه لتغایر الجهتین.
وقد یتخلّف هذا الأصل فی مواضع:
منها اجزاء الواجب عن الندب فی صلاة الإحتیاط التی یظهر الغناء عنها وكذا لو صام یوماً بنیّة القضاء عن رمضان فتبیّن انّه كان قد صامه فانّه یستحقّ علی ذلك ثواب الندب
______________________________
(1) الوسائل 1/ 48 نقلًا عن التهذیب و راجع ذیل ص 74 من القواعد والفوائد للشهید الأوّل
جامعة الأصول، ص: 267
وامّا اجزاء الندب عن الواجب ففی مواضع: منها صوم یوم الشكّ- ثم عدّ مواضع اخر- منها اجزاء الوضوء المستحبّ عن الواجب «1» هذا ما ذكروه فی هذا المقام. وفیه نظر بیّن لانّ الحقّ انّ نیّة الوجه لیست واجبة، وغایة ما یستفاد من اخبار القربة وسائر الادلّة التی ذكرها القوم فی اعتبار نیّة الوجه مردودة. بل القدر المسلّم انّه یجب امتیاز الفعل عند المكلّف فإذا كان الفعل متحداً ممتازاً لایجب نیّة الوجه. بل ان نوی خلافه ایضاً یكون صحیحاً مثل ان یكون الفعل واجباً ونوی الندب أو العكس.
قال المحقّق فی بعض تصانیفه: الذی ظهر لی انّ نیّة الوجوب والنّدب لیست شرطاً فی صحّة الطّهارة وانّما یفتقر الوضوء إلی نیّة القربة وهو اختیار الشیخ أبی‌جعفر الطوسی رحمه اللَّه فی النهایة [إلی أن قال:] وانّ الاخلال بنیّة الوجوب لیس موثّراً فی بطلانه «2» ولااضافتها مضرّة ولوكانت غیر مطابقة بحال الوضوء فی وجوبه وندبه. وما یقوله المتكلّمون من انّ الارادة توثّر فی حسن الفعل وقبحه فإذا نوی الوجوب والوضوء مندوب فقد قصد ایقاع الفعل علی غیر وجهه كلام شعری ولو كان له حقیقة لكان النّاوی مخطئاً فی نیّته ولم تكن النیّة مخرجة للوضوء
______________________________
(1) القواعد والفوائد 1/ 83 وفیه: «الفائدة السادسة» لا «الخامسة»
(2) فی المصدر: فی بطلان.
جامعة الأصول، ص: 268
عن التقرّب به- انتهی كلامه رفع مقامه- «1».
وهو یدلّ علی انّه ان نوی خلاف الواقع بان كان واجباً فنواه ندباً أو بالعكس لم یكن مضرّاً وقد نسبه صاحب المدارك إلی الجودة ایضاً «2» وهو كذلك بعدما كان الفعل متّحداً متمیّزاً بدون نیّة الوجه، وذلك لانّ الفعل إذا كان متّحداً متمیزاً وكان واجباً مثلًا فإذا نواه ندباً لاشكّ فی انصرافها إلیه ویكون ممتثلًا لانّ المفروض عدم وجود غیره وغایة ما ثبت من ادلّتهم اشتراط الامتیاز والقربة وقد بسطنا الكلام فی هذا المقام فی تعلیقاتنا علی شرح الدّروس للمحقّق الخوانساری.

ومنها: الأصل فی تصرّفات المسلم الصحّة لانّ القاعدة التی وضعها الشّارع فی احكام المسلمین الصحّة فیكون هذا الأصل داخلًا تحت «القاعدة»

ولا یخفی انّ هذا علی قسمین:
أحدهما ان یصدر فعل من مسلم وكان ذا وجهین: أحدهما صحیح
______________________________
(1) الرسائل التسع للمحقّق الحلّی (المسائل الطبریّة) ص 318
(2) مدارك الأحكام فی بحث نیّة الوضوء، قال بعد نقل كلام المحقّق: هذا كلامه اعلی اللَّه تعالی مقامه وهو فی غایة الجودة.
جامعة الأصول، ص: 269
والاخر غیر صحیح فیجب حمله علی الوجه الصحیح كما إذا رأینا عالماً دخل علی جابر فیمكن حمله علی ركونه إلی الظالم ویمكن حمله علی استخلاص مظلوم، فیجب ان نحمله علی الثانی.
وثانیهما ان یصدر فعل من شخص ویكون هذا الفعل ایضاً ذا وجهین وكان الحمل علی الوجه الصحیح موقوفاً علی العلم- ویكون العلم شرطاً فیه- كما إذا أفتی رجل فی مسألة شرعیّة «1» ولا نعلم انّ هذا الرّجل هل یصلح لبیان المسائل الشرعیّة أم لا مع انّ قبول المسألة الشرعیّة منه موقوف علی العلم بقابلیّته فحینئذ الحمل علی الوجه الصحیح محلّ تأمّل لانّ العلم هنا شرط نعم ان حصل العلم أولًا ثمّ حصل الشكّ فالظاهر عدم الاعتناء به كما إذا حصل العلم بعدالة امام ثمّ حصل الشكّ باعتبار فعل ذی وجهین.

ومنها: الأصل فی البیع الصحّة

ولا یخفی انّه ان كان المراد منه انّه إذا حصل الصحّة فالاصل بقاءة حتی یجزم بخلافه فیكون داخلًا تحت «الإستصحاب» الّا انّه لا تأمّل فی ان غرض القوم منه لیس ذلك. وان كان المراد منه ان القاعدة الّتی وضع الشارع فی البیع الصحّة نظراً إلی انّه من تصرفات المسلم، والأصل فیها الصحّة فیكون داخلًا تحت «الأصل السابق» و یكون صحیحاً الّا انّه یبقی
______________________________
(1) و فی نسخة: إذا قال رجل مسألة شرعیّة
جامعة الأصول، ص: 270
التأمّل فی انّ الصّحة أمر وجودی والأصل عدمه فیكون من باب تعارض الأصلین.

ومنها: الأصل عدم القبض الصحیح‌

ولا یخفی انّه ان كان مرادهم بهذا الأصل أصل العدم فهو انّ الأصل عدم مطلق القبض لا الصحیح منه، بل الظاهر انّه إذا حصل العلم بالقبض یكون الأصل عدم القبض الفاسد نعم یمكن ان یقال: الصحّة امر وجودیٌّ والأصل عدمه فیكون من باب تعارض الأصلین ایضاً وان كان مرادهم من الأصل غیر ذلك فلا بد من البیان.

ومنها: قولهم: الأصل فی البیع اللزوم‌

وهو داخل تحت «القاعدة» لانّ القاعدة الّتی قرّرها الشارع فی البیع اللّزوم. ولا یخفی انّ الغرض من قولهم: الأصل فیه اللزوم انّه مع قطع النّظر عن الامور الخارجة یكون الأصل فیه اللّزوم، فلا ینافی وضع الخیار فیه.
وقال الشهید فی قواعده: الأصل فی البیع اللزوم وكذا فی سائر العقود. یخرج عن الأصل فی مواضع لعلل خارجة فالبیع یخرج إلی الفسخ أو الانفساخ بامور:
منها: اقسام الخیار المشهورة وخیار فوات شرط معیّن [او وصف معیّن] أو عروض الشركة قبل القبض وتلف المبیع المعیّن أو الثمن المعیّن
جامعة الأصول، ص: 271
قبله أو فی زمن الخیار إذا كان الخیار للمشتری وان قبضه والاقالة والتحالف عند التّحالف فی تعیین المبیع أو تعیین الثمن أو تقدیره علی قول وتفریق الصّفقة والاخلال بالشرط وخیار الرجوع عند الافلاس- انتهی موضع الحاجة- «1».
وكلام الشهید (قدّس سرّه) ایضاً یدلّ علی انّ الخروج من اللّزوم باعتبار امر خارجی وهذا لا ینافی كون اللزوم اصلًا فیه وبذلك یندفع كلام بعض الفضلاء «2».

ومنها: انّ النیّة فعل المكلّف ولا اثر لنیّة غیره لانّ النیّة الّتی اعتبرها الشارع هی القصد مع القربة ولا معنی لقصد شخص لشخص اخر.

وهذا معنی قطعی وامر جزمیّ. فالامتثال العرفی انّما یحصل إذا حصل النیّة من المكلّف دون غیره فیمكن ان یكون داخلًا تحت «القاعدة» ویمكن ان یكون داخلًا تحت «الّراجح».
قال الشهید فی قواعده: الفائدة الثلثون: الأصل انّ النیّة فعل المكلّف ولا اثر لنیّة غیره وتجوز النیّة عن غیر المباشر فی الصّبیّ غیر الممیز والمجنون إذا حجّ بهما الوّلیّ
______________________________
(1) القواعد و الفوائد 2/ 243
(2) وهو صاحب الوافیة. قال فیها: ص 198: قوله: «الاصل فی البیع اللزوم» لیس له وجه لأنّ خیار المجلس ممّا یعمّ اقسام البیع
جامعة الأصول، ص: 272
وقد یؤثّر نیّةالانسان فی فعل المكلّف وله صور:
منها ان یأخذ الامام الزكاة قهراً من الممتنع فیمتنع ان یعری عن النیّة فیمكن ان یقال یجب النیّة من الامام (علیه السّلام) وان كان الدافع المكلّف- انتهی- «1».
وقال بعض الافاضل المتأخرین «2»: الصّبیّ والمجنون لیسا مكلّفین ونسبتهما إلی الولی المكلّف كنسبة یده ورجله إلیه فلا بدّ له فی فعله الّذی كلّف به وهو الحجّ بهما من النیّة وقوله لهما قل احجّ حجّة الاسلام مثلًا لیس بنیّة وانّما هو تلقین لصورة النیّة ولسانهما بمنزلة جارحة منه وبالجملة الفاعل فی الحقیقة هو الولی وهما الثانی «3» لفعله ونیّته امر قلبی قائم به. فهذه الصور لیست خارجة عن الأصل وامّا المكلّف المقهور الدافع للزكاة فإن صار بحیث ارتفع عنه القصد لاجل القهر وكان بحیث لم یتقرّب بفعله إلی اللَّه فلیس دفعه عبادة واداء للزكاة من حیث هی عبادة وعدم وجوب الدفع علیه مرّة بعد اخری غیر مستلزم لان یكون الدفع عبادة محتاجة إلی النیّة حتی یقال: انّها لا یجوز ان یعری عن النیّة فنیّة الامام وهی قصده الدفع عمن لا قصد له، أولا تقرّب
______________________________
(1) القواعد و الفوائد 1/ 122 و فیها الفائدة الحادیة و الثلاثون
(2) لعلّه السیّد الصدر شارح الوافیة فی ذیل قول الفاضل التونی: قال الشهید الاوّل: الاصل فی النیّة فعل المكلّف ولا اثر لنیّة غیره
(3) كذا فی النسختین وهو تصحیف ظاهراً
جامعة الأصول، ص: 273
له، تقرباً إلی اللَّه تعالی اثرت فی فعل هذا المقهور والحاصل انّ الزكاة لها حیثیتان: الاولی كون دفعها عبادة یقصد بها التقرّب، والثانیة كونها دیناً لازم الاداء وعلی الاوّل مشروطة بالنیّة ویمتنع ان یعری عنها، وامّا الثانی فلا، ولا دلیل علی كون دفع المقهور عبادة حتی یحتاج إلی النیّة بل لمّا لم یقصد التقرّب لم یكن عبادة ولمّا وصل المال إلی الفقیر لم یجب الاعادة فاتضح ان كون هذه الصّورة ایضاً خارجة عن هذا الأصل لا وجه له ظاهر- انتهی- «1».
وكلامه جیّد متین عند المتأمّلین.

ومنها: الأصل فی العقود الحلول ای حلول العوضین‌

والظاهر انّ هذا الأصل داخل فی «القاعدة» لانّ الغرض من العقود ان یترتّب اثرها المقصود منها ولاشكّ انّ الاثر تقابض العوضین وكلّما حصل التقابض اسرع یكون الاثر اقوی والغایة ان یحصل التقابض عاجلًا وعند الاطلاق یكون ذلك فی الاغلب مقصود النّاس.
قال الشهید: الأصل الحلول فی العقود وبالنّسبة إلی الاجل اقسام اربعة:
______________________________
(1) راجع شرح الوافیة للسید صدر الدین القمی. مخطوط
جامعة الأصول، ص: 274
اوّلها: ما یشترط فیه الاجل وقد سلف «1».
وثانیها: ما یبطله الاجل وتقدّم ایضاً «2» كالرّبوی.
وثالثها: ما فیه خلاف اقربه جواز الحلول وهو السّلم.
ورابعها: ما یجوز حالّاً ومؤجّلًا وهو معظم العقود «3».

ومنها: ما قال الشهید (قدّس سرّه) الأصل فی المیراث النّسبی التولّد

فمن ولد شخصاً یترتّب علیه طبقات الارث وفی المیراث السّببیَ الانعام بالعتق أو الضمان أو الولایة العامّة.
والنسب المقدّم لانّه أصل الوجود ثمّ العتق لانّه أصل فی وجود العتیق لنفسه ثمّ الضّامن لانّه منعم خاصّ ثمّ الامام (علیه السّلام) انتهی «4».
قال بعض الافاضل «5»: الظّاهر انّ المراد بالاصل هنا لیس أحد المعانی الاربعة بل غرضه انّ العلّة الّتی من اجلها شرّع المیراث النّسبی التولّد والّتی من اجلها شرّع السّببی الانعام، وكلّ من العلّتین له فروع تترتب علیه وتنضمّ إلی كلّ منهما ضمائم یختلف لاجلها الحكم وهما مضبوطتان فی جمیع الصور.
______________________________
(1) فی قاعدة 250 من القواعد و الفوائد ج 2 ص 257
(2) فی قاعدة 249 من القواعد والفوائد ج 2 ص 257
(3) القواعد و الفوائد 2/ 261 فی قاعدة 254
(4) القواعد و الفوائد 2/ 287 فی قاعدة 275
(5) هو صاحب شرح الوافیة ظاهراً فراجع
جامعة الأصول، ص: 275
ومنها: الأصل فی الاسباب عدم تداخلها
لانّ العقل یحكم بانّه إذا حدث امور و كلّ واحد منها سبب لحكم ان یتكرّر الحكم بتكرّر الاسباب فیكون داخلًا تحت «القاعدة» وقد استثنی من هذا الأصل مواضع ذكر جملة منها الشهید فی قواعده «1» وفی أصل هذه القاعدة تأمّل وقد بسط الكلام فیه المحقّق الاستاذ الخوانساری فی شرح الدّروس «2».

ومنها: الأصل حمل اللفظ علی الحقیقة الواحدة،

فالمجاز والاشتراك یحتاج إلی دلیل وهذا یمكن ان یكون داخلًا تحت «القاعدة» ویمكن ان یكون داخلًا تحت «الراجح».

ومنها: الأصل عدم تقدّم الاسلام‌

وهذا داخل تحت «الإستصحاب» لانّه إذا كان كفره سابقاً علی اسلامه وفعل فعلًا كان الاسلام شرطاً لصحته فوقع الشكّ فی انّ هذا الفعل هل كان فی حال كفره أو اسلامه فالاصل هنا عدم تقدّم الاسلام.
ولا یخفی انّ هذا فی صورة یكون الكفر مقدّماً علی الاسلام، وامّا إذا كان الاسلام مقدّماً علی الكفر یكون الامر بالعكس.

ومنها: الأصل انّ الاحكام الّتی علّقت علی مسمّیات ارتباطها

______________________________
(1) القواعد و الفوائد 2/ 223 فی قاعدة 229
(2)-
جامعة الأصول، ص: 276
بحصول جمیع المسمیّات «1» مثلًا علّق الشارع العدّة فی الحامل علی وضع الحمل فالاصل تعلیقها علی خروج جمیع الولد دون بعضه وعلّق الارث علی خروج الولد حیّاً فالاصل خروج جمیعه حیّاً فلا یكفی البعض ومن هذا الأصل ما رود من الشّارع انّه یجزی الحجّ إذا مات المحرم بعد دخوله فی الحرم «2» فإنّه یشترط دخوله بتمامه وكذا ما ورد منه انّ الطّواف یجب ان یكون خارج البیت «3» فإنّه یشترط خروجه بجمیع بدنه وهذا الأصل یمكن ان یكون داخلًا تحت «القاعدة» ویمكن ان یكون داخلًا تحت «الرّاجح» وذلك لانّه إذا علّق الشارع امراً علی لفظ، فالظاهر انّ المراد حصول جمیع معنی هذا اللفظ، فالحمل علی حصول بعضه مجاز فیكون داخلًا تحت القاعدة العقلیّة أو الراجح الظاهر.

ومنها: الأصل ان كل واحد لا یجوز له ان یجبره غیره علی فعل الّا فی مواضع مستثناة.

______________________________
(1) راجع القواعد و الفوائد 1/ 359 قاعدة 139
(2) راجع الوسائل 11/ 68، الباب 26 من ابواب وجوب الحج
(3) راجع الوسائل 13/ 353، الباب 30 من ابواب الطواف
جامعة الأصول، ص: 277
قال الشهید (قدّس سرّه): قاعدة الأصل ان كلّ واحد لایجوز له ان یجبر غیره علی فعل الّا فی مواضع اجبار السیّد رقیقه علی النكاح ولیس لرقیقه اجباره عندنا والاب والجدّ للصغیرة والمجنونة والصغیر مطلقاً والمجنون الكبیر إذا كان النكاح صلاحاً له بظهور امارة التوقان أو برجاء الشفاء المستند إلی الاطباء ولو طلبت البالغة البكر النكاح اجبر الاب والجد علی تزویجها ان قلنا لا ولایة لهما أو بالاشتراك وهل یجبر الولی علی تزوج الصّغیرین عند ظهور الغبطة لهما نظر وكذا یجبر الولی علی تزویج السفیه والاقرب انّ له اجبار السفیّه مع الغبطة والمضطر یجبر صاحب الطعام وهو یجبره إذا امتنع من الاكل واشرف علی التلف. انتهی «1».
ولایخفی ان هذا الأصل یمكن ان یكون داخلًا تحت «أصل العدم» لانّ الاجبار فعل ممكن وجودی والأصل عدمه حتی یثبت، ویمكن ان یكون داخلًا تحت «الراجح» لانّ المواضع الّتی لا یمكن اجبار الغیر فیها أغلب و أكثر من المواضع الّتی یمكن اجبار الغیر فیها.

ومنها: الأصل قصر الحكم علی مدلول اللفظ ولا یسری إلی غیره‌

والأصل هنا بمعنی الراجح الظاهر لانّ الظاهر الراجح انّ المراد من
______________________________
(1) القواعد و الفوائد 1/ 356 قاعدة 136
جامعة الأصول، ص: 278
الحكم ما یدلّ علیه اللّفظ.
قال الشهید: الأصل یقتضی قصر الحكم علی مدلول اللفظ وانّه لایسری إلی غیر مدلوله الّا فی مواضع منها العتق فی الاشقاص لا فی الاشخاص الّا علی مذهب الشیخ من السّرایة إلی الحمل، والعفو عن بعض الشقص فی الشفعة علی احتمال، وعن بعض القصاص فی النّفس علی وجه، والسّرایة فی نیّة الصّوم إلی اوّل النّهار ویحتمل سرایة ثواب الوضوء إلی المضمضة والاستنشاق إذا نوی عند غسل الوجه لانّه یعدّ وضوءاً واحداً ویمكن الفرق بینه وبین الصّوم ان بعض الیوم مرتبط ببعضه بخلاف الوضوء فإنّه لایرتبط بالمقدّمات ومن السّرایة تسمیة الاكل فی الاثناء إذا قال علی اوّله وآخره بعد نسیان التّمسیة وسرایة الظّهر «1» إلی تحریم غیره. وهذا من الغرائب انّ الشقص یسری إلی الكلّ من غیر عكس كما لو قال انت كأمّی، ومثله الإیلاء یختصّ بالجماع قبلًا ویسری [دبراً] علی احتمال- انتهی- «2».

ومنها: قول الشهید فی قواعده: قضیّة الأصل: وجوب استحضار النیّة

______________________________
(1) الظهار. خ.
(2) القواعد و الفوائد 1/ 323 قاعدة 116
جامعة الأصول، ص: 279
فعلًا فی كلّ جزء من اجزاء العبادة لقیام دلیل الكلّ فی الاجزاء، فانّها عباده ایضاً، ولكن لما تعذّر ذلك فی العبادة البعیدة المسافة أو تعسّر فی القریبة المسافة، اكتفی بالاستمرار الحكمی. وفسّر بتجدید العزم كلّما ذكر. ومنهم من فسّره بعدم الاتیان بالمنافی- انتهی- «1».
اقول: المراد بالاصل هنا امّا القاعدة المستفادة من العقل أو الظاهر الراجح لانّ الشارع بیّن انّ العبادة محتاجة إلی النیّة فالظاهر انّ حكم مجموع العبادة كذلك.

ومنها: قوله: الأصل فی هیئة المستحبّ ان یكون مستحبّة

لامتناع زیادة الوصف علی الأصل [فی الاكثر «2»]- انتهی- «3».
والأصل هنا بمعنی الظاهر الرّاجح، لانّ الاغلب فی المستحبات كون هیئاتها ایضاً مستحبّة وقد تخلف فی مواضع ذكر بعضها الشهید (قدّس سرّه) ومن هذا یظهر انّ المراد بالامتناع فی قول الشهید (قدّس سرّه) هو اباء العقل لا امتناع الذّاتی أو العادی.

ومنها: الأصل عدم تحمّل الانسان عن غیره فی التكالیف الشرعیّة

______________________________
(1) القواعد و الفوائد 1/ 93 الفائدة الثالثة عشرة
(2) كذا فی الوافیة ص 197
(3) القواعد والفوائد 2/ 304 قاعدة 289
جامعة الأصول، ص: 280
وهذا داخل تحت القاعدة المستفادة من العقل لانّ العقل یحكم بانّه إذا كلّف الشارع انساناً إلی امر یجب علی المكلّف ان یتحمّل هذا الامر ولا یعقل تحمّل الغیر له بحیث حصل له اثره من الثواب أو سقوط العذاب أو براءة الذمّة نعم قد إذن الشارع تحمّل الغیر فی مواضع.
قال الشهید (قدّس سرّه): الأصل عدم تحمّل الانسان عن غیره مالم یأذن له فیه الّا فی مواضع:
تحمّل الولی عن المیّت قضاء الصّلاة والصّیام والاعتكاف وتحمّل الامام القراءة عن المأموم مطلقاً وعند بعض العامّة إذا ادركه راكعاً وتحمّل السجود السّهو عن المأمومین فی وجه وتحمّل الغارم «1» لاصلاح ذات البین وكذا تصرف الزكاة إلیه والتحمّل فی زكاة الفطرة عن الزوجة وواجب النفقة والمملوك بناء علی ملاقات الوجوب لهؤلاء أولًا والتحمّل عنهم بعده ویبعد فی العبد والقریب والزوجة المعسرة، لانّهم لو تجرّدوا عن المنفق لما وجب علیهم شی‌ء فكیف یتحمّل مالم یجب «2».
وبعد كلام قال: وتحمّل الاب المزوّج ولده الصّغیر المهر فی ماله. ثمّ
______________________________
(1) القادم خ العازم خ.
(2) القواعد والفوائد 1/ 353 قاعدة 135
جامعة الأصول، ص: 281
بسط الكلام فیه وذكره غیر محتاج إلیه هنا «1».

ومنها: الأصل السّلامة من العیب‌

كان یشتری عبداً فوجد به عیباً وشكّ فی انّه وقت العقد كان معیباً أم لا فهذا داخل تحت «الرّاجح الظاهر» لانّ الظاهر من خلقة الانسان كونه سالماً. ویمكن ان یكون داخلًا تحت «أصل العدم» أو «أصل تاخر الحادث».

ومنها: قول الشهید (قدّس سرّه) قد یتعارض الاصلان كدخول المأموم فی صلاة وشكّ هل كان الامام راكعاً أم لا «2»

والظّاهر انّ الأصلین أحدهما وهو كونه راكعاً «الإستصحاب» لانّ الرّكوع للامام كان محقّقاً فالاصل بقاؤه فی صورة الشكّ ایضاً حتی یثبت المزیل. ویمكن ان یكون «أصل البراءة» لانّ الأصل عدم وجوب التكلیف بصلاة اخری وثانیهما وهو عدم كونه راكعاً یمكن ان یكون «أصل العدم» لانّ الأصل عدم ادراكه الامام راكعاً ویمكن ان یكون «أصل تأخر الحادث» لانّ الحاق المأموم بالامام امر حادث وشكّ انّ هذا الالحاق هل كان سابقاً علی رفعه أم لا؟ فالاصل تأخّره عن الرّفع. والشهید رجّح الثانی لمعاضدته بالإحتیاط وهو كماتری.
______________________________
(1) راجع القواعد و الفوائد 1/ 353
(2) القواعد و الفوائد 1/ 134
جامعة الأصول، ص: 282

ومنها: ما تعارض فیه الاصلان ایضاً كالشكّ فی تخمیر العصیر عند الرّاهن أو بعده‌

إذا وقع التنازع بین الرّاهن والمرتهن إذا اراد المرتهن فسخ البیع المشروط به «1».
والاصلان هنا عدم القبض الصّحیح وصحّة البیع وقد عرفت مرجع هذین الأصلین.
ولایخفی علی الفطن الذكّی والمتدرّب الا لمعی انّ من أحاط بما ذكرنا من مرجع هذه الأصول یتمكّن من استنباط كلّ أصل أورد علیه ولا یحتاج إلی شی‌ء آخر ولهذا اكتفینا بها

[الخاتمة]

ولیكن هذا اخر ما اردنا ایراده فی هذا الكتاب والحمد للَّه علی اتمامه.
صورة خط المصنّف:
وقد فرغت من تألیفه فی اوّل اللیلة العاشرة من شهر شوّال المكرّم سنة 1180 ثمانین ومائة بعد الالف من الهجرة النبویّة المصطفویّة علی هاجرها الف صلاة وتحیّة واسأل اللَّه تعالی ان یجعله خالصاً لوجهه الكریم وینتفع به اصحاب التفهیم والتّعلیم.
قد فرغت من كتابة هذه الرسالة الشریفة فی ضحوة یوم الجمعة الخامس والعشرین من شهر ذی الحجّة الحرام سنة 1181 من الهجرة المقدّسة النبویّة علی هاجرها الف الف صلاة وسلام وتحیّة.
وقد كتبت هذه من نسخة الأصل التی كانت بخط مصنّفه ادام اللَّه ظلّه
______________________________
(1) راجع القواعد و الفوائد 1/ 135
جامعة الأصول، ص: 283
العالی علی رؤس المقتبسین من مشكاة انواره.
حررّه العبد الاقل الجانی محمّد رضا بن محمّد صفی الحسینی الكاشانی عفی عنهما غیّهما بالنّبی والولی علیهما وعلی آلهما صلوات اللَّه الملك العلی.

تعريف مرکز القائمیة باصفهان للتحریات الکمبیوتریة

جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ في سَبيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (التوبة/41).
قالَ الإمامُ علیّ ُبنُ موسَی الرِّضا – علـَیهِ السَّلامُ: رَحِمَ اللّهُ عَبْداً أحْيَا أمْرَنَا... َ يَتَعَلَّمُ عُلُومَنَا وَ يُعَلِّمُهَا النَّاسَ؛ فَإِنَّ النَّاسَ لَوْ عَلِمُوا مَحَاسِنَ كَلَامِنَا لَاتَّبَعُونَا... (بَــنـادِرُ البـِحـار – فی تلخیص بحـار الأنوار، للعلاّمة فیض الاسلام، ص 159؛ عُیونُ أخبارِ الرِّضا(ع)، الشـَّیخ الصَّدوق، الباب28، ج1/ ص307).
مؤسّس مُجتمَع "القائمیّة" الثـَّقافیّ بأصبَهانَ – إیرانَ: الشهید آیة الله "الشمس آباذی" – رَحِمَهُ اللهُ – کان أحداً من جَهابـِذة هذه المدینة، الذی قدِ اشتهَرَ بشَعَفِهِ بأهل بَیت النبیّ (صلواتُ اللهِ علـَیهـِم) و لاسیَّما بحضرة الإمام علیّ بن موسَی الرِّضا (علیه السّلام) و بـِساحة صاحِب الزّمان (عَجَّلَ اللهُ تعالی فرجَهُ الشَّریفَ)؛ و لهذا أسّس مع نظره و درایته، فی سَنـَةِ 1340 الهجریّة الشمسیّة (=1380 الهجریّة القمریّة)، مؤسَّسة ًو طریقة ًلم یـَنطـَفِئ مِصباحُها، بل تـُتـَّبَع بأقوَی و أحسَنِ مَوقِفٍ کلَّ یومٍ.
مرکز "القائمیّة" للتحرِّی الحاسوبیّ – بأصبَهانَ، إیرانَ – قد ابتدَأَ أنشِطتَهُ من سَنـَةِ 1385 الهجریّة الشمسیّة (=1427 الهجریّة القمریّة) تحتَ عنایة سماحة آیة الله الحاجّ السیّد حسن الإمامیّ – دامَ عِزّهُ – و مع مساعَدَةِ جمع ٍمن خِرّیجی الحوزات العلمیّة و طلاب الجوامع، باللیل و النهار، فی مجالاتٍ شتـَّی: دینیّة، ثقافیّة و علمیّة...
الأهداف: الدّفاع عن ساحة الشیعة و تبسیط ثـَقافة الثـَّقـَلـَین (کتاب الله و اهل البیت علیهـِمُ السَّلامُ) و معارفهما، تعزیز دوافع الشـَّباب و عموم الناس إلی التـَّحَرِّی الأدَقّ للمسائل الدّینیّة، تخلیف المطالب النـّافعة – مکانَ البَلاتیثِ المبتذلة أو الرّدیئة – فی المحامیل (=الهواتف المنقولة) و الحواسیب (=الأجهزة الکمبیوتریّة)، تمهید أرضیّةٍ واسعةٍ جامعةٍ ثـَقافیّةٍ علی أساس معارف القرآن و أهل البیت –علیهم السّلام – بباعث نشر المعارف، خدمات للمحققین و الطـّلاّب، توسعة ثقافة القراءة و إغناء أوقات فراغة هُواةِ برامِج العلوم الإسلامیّة، إنالة المنابع اللازمة لتسهیل رفع الإبهام و الشـّـُبُهات المنتشرة فی الجامعة، و...
- مِنها العَدالة الاجتماعیّة: التی یُمکِن نشرها و بثـّها بالأجهزة الحدیثة متصاعدة ً، علی أنـّه یُمکِن تسریعُ إبراز المَرافِق و التسهیلاتِ – فی آکناف البلد - و نشرِ الثـَّقافةِ الاسلامیّة و الإیرانیّة – فی أنحاء العالـَم - مِن جـِهةٍ اُخرَی.
- من الأنشطة الواسعة للمرکز:
الف) طبع و نشر عشراتِ عنوانِ کتبٍ، کتیبة، نشرة شهریّة، مع إقامة مسابقات القِراءة
ب) إنتاجُ مئات أجهزةٍ تحقیقیّة و مکتبیة، قابلة للتشغیل فی الحاسوب و المحمول
ج) إنتاج المَعارض ثـّـُلاثیّةِ الأبعاد، المنظر الشامل (= بانوراما)، الرّسوم المتحرّکة و... الأماکن الدینیّة، السیاحیّة و...
د) إبداع الموقع الانترنتی "القائمیّة" www.Ghaemiyeh.com و عدّة مَواقِعَ اُخـَرَ
ه) إنتاج المُنتـَجات العرضیّة، الخـَطابات و... للعرض فی القنوات القمریّة
و) الإطلاق و الدَّعم العلمیّ لنظام إجابة الأسئلة الشرعیّة، الاخلاقیّة و الاعتقادیّة (الهاتف: 00983112350524)
ز) ترسیم النظام التلقائیّ و الیدویّ للبلوتوث، ویب کشک، و الرّسائل القصیرة SMS
ح) التعاون الفخریّ مع عشراتِ مراکزَ طبیعیّة و اعتباریّة، منها بیوت الآیات العِظام، الحوزات العلمیّة، الجوامع، الأماکن الدینیّة کمسجد جَمکرانَ و...
ط) إقامة المؤتمَرات، و تنفیذ مشروع "ما قبلَ المدرسة" الخاصّ بالأطفال و الأحداث المُشارِکین فی الجلسة
ی) إقامة دورات تعلیمیّة عمومیّة و دورات تربیة المربّـِی (حضوراً و افتراضاً) طیلة السَّنـَة
المکتب الرّئیسیّ: إیران/أصبهان/ شارع"مسجد سیّد"/ ما بینَ شارع"پنج رَمَضان" ومُفترَق"وفائی"/بنایة"القائمیّة"
تاریخ التأسیس: 1385 الهجریّة الشمسیّة (=1427 الهجریة القمریّة)
رقم التسجیل: 2373
الهویّة الوطنیّة: 10860152026
الموقع: www.ghaemiyeh.com
البرید الالکترونی: Info@ghaemiyeh.com
المَتجَر الانترنتی: www.eslamshop.com
الهاتف: 25-2357023- (0098311)
الفاکس: 2357022 (0311)
مکتب طهرانَ 88318722 (021)
التـِّجاریّة و المَبیعات 09132000109
امور المستخدمین 2333045(0311)
ملاحَظة هامّة:
المیزانیّة الحالیّة لهذا المرکز، شـَعبیّة، تبرّعیّة، غیر حکومیّة، و غیر ربحیّة، اقتـُنِیَت باهتمام جمع من الخیّرین؛ لکنـَّها لا تـُوافِی الحجمَ المتزاید و المتـَّسِعَ للامور الدّینیّة و العلمیّة الحالیّة و مشاریع التوسعة الثـَّقافیّة؛ لهذا فقد ترجَّی هذا المرکزُ صاحِبَ هذا البیتِ (المُسمَّی بالقائمیّة) و مع ذلک، یرجو مِن جانب سماحة بقیّة الله الأعظم (عَجَّلَ اللهُ تعالی فرَجَهُ الشَّریفَ) أن یُوفـِّقَ الکلَّ توفیقاً متزائداً لِإعانتهم - فی حدّ التـّمکـّن لکلّ احدٍ منهم – إیّانا فی هذا الأمر العظیم؛ إن شاءَ اللهُ تعالی؛ و اللهُ ولیّ التوفیق.